الْمَخْلُوقِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. فَلَا اتِّحَادَ، وَلَا حُلُولَ، وَلَا مُمَازَجَةَ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَوْلُهُ " وَيَعْصِمُ مِنْ عُوَارِ التَّسَلِّي " الْعُوَارُ: الْعَيْبُ. وَالتَّسَلِّي السَّلْوَةُ عَنِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي لَا حَيَاةَ لِلْقَلْبِ وَلَا نَعِيمَ إِلَّا بِحُبِّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ. فَإِنَّ سُلُوَّ الْقَلْبِ وَغَفْلَتَهُ عَنْ ذِكْرِهِ: هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ. فَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ إِذَا صَدَقَتْ عَصَمَتْ صَاحِبَهَا عَنْ عَيْبِ سَلْوَتِهِ عَنْ مَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ. فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُسْتَغْرِقٌ فِي شُهُودِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ نُورُ الْإِيمَانِ بِهَا وَمَعْرِفَتُهَا، وَدَوَامُ ذِكْرِهَا. وَمَعَ هَذَا: فَبَابُ السَّلْوَةِ عَلَيْهِ مَسْدُودٌ، وَطَرِيقُهَا عَلَيْهِ مَقْطُوعٌ. وَالْمُحِبُّ يُمْكِنُهُ التَّسَلِّي قَبْلَ أَنْ يُشَاهِدَ جَمَالَ مَحْبُوبِهِ، وَيَسْتَغْرِقَ فِي شُهُودِ كَمَالِهِ، وَيَغِيبَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ كَانَ كَمَا قِيلَ:
مَرَّتْ بِأَرْجَاءِ الْخَيَالِ طُيُوفُهُ ... فَبَكَتْ عَلَى رَسْمِ السُّلُوِّ الدَّارِسِ
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ. وَهِيَ تُوقِظُ لِاسْتِهَانَةِ الْمُجَاهَدَاتِ. وَتُخَلِّصُ مِنْ رُعُونَةِ الْمُعَارَضَاتِ. وَتُفِيدُ مُطَالَعَةَ الْبِدَايَاتِ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ: أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهَا. فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا - مُطَالَعَةُ كَشْفِ الْأَنْوَارِ - تُشِيرُ إِلَى نَوْعِ كَسْبٍ وَاخْتِيَارٍ. وَهَذِهِ مُطَالَعَةٌ تَجْذِبُ الْقَلْبَ مِنَ التَّفَرُّقِ فِي أَوْدِيَةِ الْإِرَادَاتِ، وَشِعَابِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، إِلَى مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ عَيْنِ الْجَمْعِ، النَّاظِرِ إِلَى الْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، الْآخِرِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، الْبَاطِنِ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ. سَبَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِأَوَّلِيَّتِهِ. وَبَقِيَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ بِآخِرِيَّتِهِ. وَعَلَا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بِظُهُورِهِ. وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ بِبُطُونِهِ.
فَالنَّظَرُ بِهَذِهِ الْعَيْنِ: يُوقِظُ قَلْبَهُ لِاسْتِهَانَتِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ السَّالِكَ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ لَهُ شِرَّةٌ، وَفِي طَلَبِهِ حِدَّةٌ، تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ، وَتَرْمِيهِ عَلَيْهَا لِشِدَّةِ طَلَبِهِ. فَفُتُورُهُ نَائِمٌ، وَاجْتِهَادُهُ يَقْظَانُ.
فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ: اسْتَهَانَ بِالْمُجَاهَدَاتِ الشَّاقَّةِ فِي جَنْبِ مَا حَصَلَ لَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute