للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: ٤٠] فَشُكْرُ الْعَبْدِ إِحْسَانٌ مِنْهُ إِلَى نَفْسِهِ دُنْيَا وَأُخْرَى. فَلَا يُذَمُّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ مُقَابَلَةَ الْمُنْعِمِ بِهِ. وَلَا يَسْتَطِيعُ شُكْرَهُ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مُحْسِنٌ إِلَى نَفْسِهِ بِالشُّكْرِ. لَا أَنَّهُ مُكَافِئٌ بِهِ لِنِعَمِ الرَّبِّ. فَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُكَافِئَ نِعَمَهُ أَبَدًا، وَلَا أَقَلَّهَا، وَلَا أَدْنَى نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ. فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ، الْخَالِقُ لِلشُّكْرِ وَالشَّاكِرِ، وَمَا يُشْكَرُ عَلَيْهِ. فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُحْصِيَ ثَنَاءً عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ هُوَ الْمُحْسِنُ إِلَى عَبْدِهِ بِنِعَمِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ بِأَنْ أَوْزَعَهُ شُكْرَهَا. فَشُكْرُهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ. تَحْتَاجُ إِلَى شُكْرٍ آخَرَ. وَهَلُمَّ جَرًّا.

وَمِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَعَظِيمِ بِرِّهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ: مَحَبَّتُهُ لَهُ عَلَى هَذَا الشُّكْرِ. وَرِضَاهُ مِنْهُ بِهِ. وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِهِ، وَمَنْفَعَتُهُ وَفَائِدَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِالْعَبْدِ. لَا تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ الَّذِي لَا كَرَمَ فَوْقَهُ. يُنْعِمُ عَلَيْكَ ثُمَّ يُوزِعُكَ شُكْرَ النِّعْمَةِ، وَيَرْضَى عَنْكَ. ثُمَّ يُعِيدُ إِلَيْكَ مَنْفَعَةَ شُكْرِكَ. وَيَجْعَلُهُ سَبَبًا لِتَوَالِي نِعَمِهِ وَاتِّصَالِهِ إِلَيْكَ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا.

وَهَذَا الْوَجْهُ وَحْدَهُ يَكْفِي اللَّبِيبَ لِيَتَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا بَعْدَهُ.

وَأَمَّا كَوْنُ الشُّهُودِ يُسْقِطُ الشُّكْرَ: فَلَعَمْرُ اللَّهِ، إِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمَشْكُورِ بِحَظِّ الشَّاهِدِ. نَعَمْ بِحَظٍّ عَظِيمٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ، لَا حَظٍّ سُفْلِيٍّ، مُتَعَلِّقٍ بِالْكَائِنَاتِ وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ قَدْ سَارَ مِنْ حَرَمٍ إِلَى حَرَمٍ.

وَكَانَ يَقَعُ لِي هَذَا الْقَدَرُ مُنْذُ أَزْمَانٍ. وَلَا أَتَجَرَّأُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ. لِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَرَوْنَ مَنْ ذَكَّرَهُمْ بِهِ بِعَيْنِ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ. فَلَا يُصْغُونَ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَاقُوا حَلَاوَتَهُ وَلَذَّتَهُ. وَرَأَوْا تَخْبِيطَ أَهْلِ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ، وَتُلَوُّثَهُمْ بِنُفُوسِهِمْ وَعَوَالِمِهَا. وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ: أَنْ جَعَلُوهُ غَايَةً، فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا تَرَكَّبَ. وَإِذَا لَاحَتِ الْحَقَائِقُ فَلْيَقُلِ الْقَائِلُ مَا شَاءَ.

[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الشُّكْرِ]

[الدَّرَجَةُ الْأُولَى الشُّكْرُ عَلَى الْمَحَابِّ]

فَصْلٌ دَرَجَاتُ الشُّكْرِ

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الشُّكْرُ عَلَى الْمُحَابِّ. وَهَذَا شُكْرٌ تَشَارَكَتْ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ. وَمِنْ سِعَةِ رَحْمَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ: أَنْ عَدَّهُ شُكْرًا. وَوَعَدَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ، وَأَوْجَبَ فِيهِ الْمَثُوبَةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>