وَأَمَّا حَظُّ النَّفْسِ مِنَ الْعَمَلِ فَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ الصَّادِقُونَ.
الثَّانِي: عِلْمُهُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ حُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ، وَآدَابِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَشُرُوطِهَا، وَأَنَّ الْعَبْدَ أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقًّا، وَأَنْ يَرْضَى بِهَا لِرَبِّهِ. فَالْعَارِفُ لَا يَرْضَى بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ لِرَبِّهِ، وَلَا يَرْضَى نَفْسَهُ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَيَسْتَحْيِي مِنْ مُقَابَلَةِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ.
فَسُوءُ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ وَعَمَلِهِ وَبُغْضُهُ لَهَا، وَكَرَاهَتُهُ لِأَنْفَاسِهِ وَصُعُودِهَا إِلَى اللَّهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّضَا بِعَمَلِهِ، وَالرِّضَا عَنْ نَفْسِهِ.
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفُ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَيَهُزُّهَا. وَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: يَا مَأْوَى كُلِّ سُوءٍ، وَهَلْ رَضِيتُكَ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؟
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: آفَةُ الْعَبْدِ رِضَاهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ بِاسْتِحْسَانِ شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَهْلَكَهَا. وَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ مَغْرُورٌ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الْخَجَلُ مِنَ الْعَمَلِ مَعَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَجَلُ مِنَ الْعَمَلِ مَعَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ، وَتَوْفِيرِ الْجُهْدِ بِالِاحْتِمَاءِ مِنَ الشُّهُودِ، وَرُؤْيَةِ الْعَمَلِ فِي نُورِ التَّوْفِيقِ مِنْ عَيْنِ الْجُودِ.
هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورِ " خَجَلُهُ " مِنْ عَمَلِهِ، وَهُوَ شِدَّةُ حَيَائِهِ مِنَ اللَّهِ؛ إِذْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْعَمَلَ صَالِحًا لَهُ، مَعَ بَذْلِ مَجْهُودِهِ فِيهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: ٦٠] .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيُصَلِّي، وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ» .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِّي لَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَأَقُومُ عَنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ السَّارِقِ أَوِ الزَّانِي، الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ، حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.