[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ صَفَاءُ حَالٍ يُشَاهَدُ بِهِ شَوَاهِدُ التَّحْقِيقِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: صَفَاءُ حَالٍ، يُشَاهَدُ بِهِ شَوَاهِدُ التَّحْقِيقِ. وَيُذَاقُ بِهِ حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ. وَيُنْسَى بِهِ الْكَوْنُ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ إِنَّمَا كَانَتْ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا هِمَّةُ حَالٍ. وَالْحَالُ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ، وَلَا يَصْفُو حَالٌ إِلَّا بِصَفَاءِ الْعِلْمِ الْمُثْمِرِ لَهُ. وَعَلَى حَسَبِ شَوْبِ الْعِلْمِ يَكُونُ شَوْبُ الْحَالِ. وَإِذَا صَفَا الْحَالُ: شَاهَدَ الْعَبْدُ - بِصَفَائِهِ - آثَارَ الْحَقَائِقِ. وَهِيَ الشَّوَاهِدُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ. وَوَجَدَ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ. وَإِذَا تَمَكَّنَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: نَسِيَ الْكَوْنَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمُكَوِّنَاتِ.
وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ تَخْتَصُّ بِصَفَاءِ الْحَالِ كَمَا اخْتَصَّتِ الْأُولَى بِصَفَاءِ الْعِلْمِ.
وَالْحَالُ هُوَ تَكَيُّفُ الْقَلْبِ وَانْصِبَاغُهُ بِحُكْمِ الْوَارِدَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَالْحَالُ يَدْعُو صَاحِبَهُ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ الْوَارِدُ، كَمَا تَدْعُوهُ رَائِحَةُ الْبُسْتَانِ الطَّيِّبَةُ إِلَى دُخُولِهِ وَالْمَقَامِ فِيهِ. فَإِذَا كَانَ الْوَارِدُ مِنْ حَضْرَةٍ صَحِيحَةٍ - وَهِيَ حَضْرَةُ الْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، لَا الْحَقِيقَةِ الْخَيَالِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ - شَاهَدَ السَّالِكُ بِصَفَائِهِ شَوَاهِدَ التَّحْقِيقِ، وَهِيَ عَلَامَاتُهُ: وَالتَّحْقِيقُ هُوَ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ، وَتَأَثُّرُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِهَا، وَالْحَقِيقَةُ مَا تَعَلَّقَ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ سُبْحَانَهُ. فَاللَّهُ هُوَ الْحَقُّ. وَالْحَقِيقَةُ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ. وَالتَّحْقِيقُ تَأَثُّرُ الْقَلْبِ بِآثَارِ الْحَقِيقَةِ. وَلِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ، وَلِكُلِّ حَقِيقَةٍ تَحْقِيقٌ يَقُومُ بِمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ.
قَوْلُهُ " وَيُذَاقُ بِهِ حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ " الْمُنَاجَاةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ النَّجْوَى. وَهُوَ الْخِطَابُ فِي سِرِّ الْعَبْدِ وَبَاطِنِهِ. وَالشَّيْخُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: مُشَاهَدَةُ شَوَاهِدِ التَّحْقِيقِ. الثَّانِي: ذَوْقُ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ. فَإِنَّهُ مَتَى صَفَا لَهُ حَالُهُ مِنَ الشَّوَائِبِ، خَلُصَتْ لَهُ حَلَاوَتُهُ مِنْ مَرَارَةِ الْأَكْدَارِ. فَذَاقَ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ. فَلَوْ كَانَ الْحَالُ مَشُوبًا مُكَدَّرًا لَمْ يَجِدْ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ. وَالْحَالُ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى وَارِدٍ تُذَاقُ بِهِ حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ: هُوَ مِنْ حَضْرَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، بِحَسَبِ مَا يُصَادِفُ الْقَلْبَ مِنْ ظُهُورِهَا وَكَشْفِ مَعَانِيهَا.
فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ اسْمُ الْوَدُودِ - مَثَلًا - وَكُشِفَ لَهُ عَنْ مَعَانِي هَذَا الِاسْمِ، وَلُطْفِهِ، وَتَعَلُّقِهِ بِظَاهِرِ الْعَبْدِ وَبَاطِنِهِ: كَانَ الْحَالُ الْحَاصِلُ لَهُ مِنْ حَضْرَةِ هَذَا الِاسْمِ مُنَاسِبًا لَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute