لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمُسَاءَةٍ ... لَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكَا
فَكَيْفَ إِذَا نَالَهُ مَحْبُوبُهُ بِمَسَرَّةٍ - وَإِنْ دَقَّتْ - فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا جَلِيلَةً خَطِيرَةً. فَكَيْفَ هَذَا مَعَ الرَّبِّ تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِي أَبَدًا إِلَّا بِالْخَيْرِ؟ وَيَسْتَحِيلُ خِلَافُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ كَمَالِهِ. وَقَدْ أَفْصَحَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ: «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» أَيْ لَا يُضَافُ إِلَيْكَ. وَلَا يُنْسَبُ إِلَيْكَ. وَلَا يَصْدُرُ مِنْكَ. فَإِنَّ أَسْمَاءَهُ كُلَّهَا حُسْنَى، وَصِفَاتِهِ كُلَّهَا كَمَالٌ، وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا فَضْلٌ وَعَدْلٌ، وَحِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ. فَبِأَيِّ وَجْهٍ يُنْسَبُ الشَّرُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فَكُلُّ مَا يَأْتِي مِنْهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ. وَلَهُ فِيهِ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ.
قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا يَرَى مِنَ الْوَفَاءِ بُدًّا.
يَعْنِي: أَنَّ مُعَامَلَتَكَ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِمُقْتَضَى الِاعْتِذَارِ مِنْ كُلِّ مَا مِنْكَ، وَالشُّكْرِ عَلَى مَا مِنْهُ - عَقْدٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَازِمٌ لَكَ أَبَدًا، لَا تَرَى مِنَ الْوَفَاءِ بِهِ بُدًّا. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ عَارِضٍ، وَحَالٍ يُحَوَّلُ. بَلْ عَقْدٌ لَازِمٌ عَلَيْكَ الْوَفَاءُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ التَّخَلُّقُ بِتَصْفِيَةِ الْخُلُقِ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّخَلُّقُ بِتَصْفِيَةِ الْخُلُقِ. ثُمَّ الصُّعُودُ عَنْ تَفْرِقَةِ التَّخَلُّقِ. ثُمَّ التَّخَلُّقُ بِمُجَاوَزَةِ الْأَخْلَاقِ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: تَصْفِيَةُ الْخُلُقِ بِتَكْمِيلِ مَا ذُكِرَ فِي الدَّرَجَتَيْنِ قَبْلَهُ. فَيُصَفِّيهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ وَقَذًى وَمُشَوِّشٍ. فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ صَعِدْتَ مِنْ تَفْرِقَتِهِ إِلَى جَمْعِيَّتِكَ عَلَى اللَّهِ. فَإِنَّ التَّخَلُّقَ وَالتَّصَوُّفَ تَهْذِيبٌ وَاسْتِعْدَادٌ لِلْجَمْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا سَمَّاهُ تَفْرِقَةً: لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالْغَيْرِ. وَالسُّلُوكُ يَقْتَضِي الْإِقْبَالَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالِاشْتِغَالَ بِالرَّبِّ وَحْدَهُ عَمَّا سِوَاهُ.
ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ. وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا بِأَنْ يَغِيبَ عَنِ الْخَلْقِ وَالتَّخَلُّقِ. وَهَذِهِ الْغَيْبَةُ لَهَا مَرْتَبَتَانِ عِنْدَهُمْ.
إِحْدَاهُمَا: الِاشْتِغَالُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ.
وَالثَّانِيَةُ: الْفَنَاءُ فِي الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا حَضْرَةَ الْجَمْعِ وَهِيَ أَعْلَى الْغَايَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute