إِذَا قَامَ بِهِ صَاحِبُهُ حَقِيقَةً.
وَلِلَّهِ دَرُّ سَيِّدِ الْقَوْمِ، وَشَيْخِ الطَّائِفَةِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ؛ إِذْ يَقُولُ: الْعِلْمُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ التَّعَبُّدِ. وَالتَّعَبُّدُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ الْوَرَعِ. وَالْوَرَعُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ الزُّهْدِ، وَالزُّهْدُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ التَّوَكُّلِ.
فَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ: أَنَّ التَّوَكُّلَ أَوْسَعُ مِنَ التَّفْوِيضِ، وَأَعْلَى وَأَرْفَعُ.
[التَّفْوِيضُ أَعَمُّ مِنَ التَّوَكُّلِ]
قَوْلُهُ: فَإِنَّ التَّوَكُّلَ بَعْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ، وَالتَّفْوِيضِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَهُ.
يَعْنِي بِالسَّبَبِ: الِاكْتِسَابَ. فَالْمُفَوَّضُ قَدْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ اكْتِسَابِهِ وَبَعْدَهُ. وَالْمُتَوَكِّلُ قَدْ قَامَ بِالسَّبَبِ. وَتَوَكَّلَ فِيهِ عَلَى اللَّهِ. فَصَارَ التَّفْوِيضُ أَوْسَعُ.
فَيُقَالُ: وَالتَّوَكُّلُ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ السَّبَبِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ. فَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقِيمَهُ فِي سَبَبٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ. فَإِذَا قَامَ بِهِ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ حَالَ مُبَاشَرَتِهِ. فَإِذَا أَتَمَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ ثَمَرَاتِهِ. فَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَهُ، وَمَعَهُ، وَبَعْدَهُ.
فَعَلَى هَذَا: هُوَ أَوْسَعُ مِنَ التَّفْوِيضِ عَلَى مَا ذَكَرَ.
قَوْلُهُ: وَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِسْلَامِ؛ أَيِ التَّفْوِيضُ عَيْنُ الِانْقِيَادِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَلَا يُبَالِي أَكَانَ مَا يَقْضِي لَهُ الْخَيْرَ. أَمْ خِلَافَهُ؟ وَالْمُتَوَكِّلُ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي مَصَالِحِهِ.
وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي لَحَظَهُ الْقَوْمُ فِي هَضْمِ مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَرَفَعِ مَقَامِ التَّفْوِيضِ عَلَيْهِ.
وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُفَوِّضَ لَا يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا لِإِرَادَتِهِ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ لَهُ خِلَافَ مَا يَظُنُّهُ خَيْرًا. فَهُوَ رَاضٍ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ. وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ. وَهَكَذَا حَالُ الْمُتَوَكِّلِ سَوَاءٌ، بَلْ هُوَ أَرْفَعُ مِنَ الْمُفَوِّضِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ مَا لَيْسَ مَعَ الْمُفَوِّضِ. فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ مُفَوِّضٌ وَزِيَادَةٌ. فَلَا يَسْتَقِيمُ مَقَامَ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِالتَّفْوِيضِ. فَإِنَّهُ إِذَا فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ اعْتَمَدَ بِقَلْبِهِ كُلِّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَفْوِيضِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا: أَنَّ مَنْ فَوَّضَ أَمَرَهُ إِلَى رَجُلٍ، وَجَعَلَهُ إِلَيْهِ. فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ - بَعْدَ تَفْوِيضِهِ - اعْتِمَادًا خَاصًّا، وَسُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً إِلَى الْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ قَبْلَ التَّفْوِيضِ. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ.