[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِرَادَةِ]
[حَقِيقَةُ الْإِرَادَةِ]
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] مَنْزِلَةُ الْإِرَادَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: ٥٢] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: ١٩ - ٢١] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: ٢٩] .
وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ بِاللَّهِ. وَكُونُ وَجْهِهِ تَعَالَى مُرَادًا.
قَالُوا: الْإِرَادَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْحَادِثِ. وَأَمَّا بِالْقَدِيمِ: فَلَا؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يُرَادُ.
وَأَوَّلُوا الْإِرَادَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ بِإِرَادَةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمُ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ. فَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِإِرَادَةِ طَاعَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِجَزَائِهِ.
هَذَا حَاصِلُ مَا عِنْدَهُمْ. وَحِجَابُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ غَلِيظٌ كَثِيفٌ مِنْ أَغْلَظِ الْحُجْبِ وَأَكْثَفِهَا. وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ أَهْلَ قَسْوَةٍ. وَلَا تُجِدُ عَلَيْهِمْ رُوحَ السُّلُوكِ، وَلَا بَهْجَةَ الْمَحَبَّةِ.
وَالطَّلَبُ وَالْإِرَادَةُ عِنْدَ أَرْبَابِ السُّلُوكِ: هِيَ التَّجَرُّدُ عَنِ الْإِرَادَةِ. فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْإِرَادَةُ إِلَّا لِمَنْ لَا إِرَادَةَ لَهُ. وَلَا تَظُنُّ أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ. بَلْ هُوَ مَحْضُ الْحَقِّ. وَاتِّفَاقُ كَلِمَةِ الْقَوْمِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَاتُ الْقَوْمِ عَنْهَا. وَغَالِبُهُمْ يُخْبِرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَرْكُ الْعَادَةِ.
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ عَادَةَ النَّاسِ غَالِبًا التَّعْرِيجُ عَلَى أَوْطَانِ الْغَفْلَةِ، وَإِجَابَةُ دَاعِي الشَّهْوَةِ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى أَرْضِ الطَّبِيعَةِ. وَالْمُرِيدُ مُنْسَلِخٌ عَنْ ذَلِكَ. فَصَارَ خُرُوجُهُ عَنْهُ: أَمَارَةً وَدَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ الْإِرَادَةِ. فَسُمِّيَ انْسِلَاخُهُ وَتَرْكُهُ إِرَادَةً.
وَقِيلَ: نُهُوضُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ.