[فَصْلٌ الثَّانِيَةُ فِرَاسَةُ الرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ]
فَصْلٌ
الْفِرَاسَةُ الثَّانِيَةُ: فِرَاسَةُ الرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ، وَالسَّهَرِ وَالتَّخَلِّي. فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْعَوَائِقِ صَارَ لَهَا مِنَ الْفِرَاسَةِ وَالْكَشْفِ بِحَسَبِ تَجَرُّدِهَا. وَهَذِهِ فِرَاسَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَلَا تَدُلُّ عَلَى إِيمَانٍ وَلَا عَلَى وِلَايَةٍ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ يَغْتَرُّ بِهَا. وَلِلرُّهْبَانِ فِيهَا وَقَائِعُ مَعْلُومَةٌ. وَهِيَ فِرَاسَةٌ لَا تَكْشِفُ عَنْ حَقٍّ نَافِعٍ. وَلَا عَنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. بَلْ كَشْفُهَا جُزْئِيٌّ مِنْ جِنْسِ فِرَاسَةِ الْوُلَاةِ، وَأَصْحَابِ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا وَالْأَطِبَّاءِ وَنَحْوِهِمْ.
وَلِلْأَطِبَّاءِ فِرَاسَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ حِذْقِهِمْ فِي صِنَاعَتِهِمْ. وَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا فَلْيُطَالِعْ تَارِيخَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ الطِّبِّ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ، يَقْتَرِنُ بِهَا تَجْرِبَةٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الثَّالِثَةُ الْفِرَاسَةُ الْخَلْقِيَّةُ]
الْفِرَاسَةُ الثَّالِثَةُ: الْفِرَاسَةُ الْخَلْقِيَّةُ. وَهِيَ الَّتِي صَنَّفَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ وَغَيْرُهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا بِالْخَلْقِ عَلَى الْخُلُقِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِارْتِبَاطِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ. كَالِاسْتِدْلَالِ بِصِغَرِ الرَّأْسِ الْخَارِجِ عَنِ الْعَادَةِ عَلَى صِغَرِ الْعَقْلِ. وَبِكِبَرِهِ، وَبِسِعَةِ الصَّدْرِ، وَبُعْدِ مَا بَيْنَ جَانِبَيْهِ: عَلَى سَعَةِ خُلُقِ صَاحِبِهِ. وَاحْتِمَالِهِ وَبِسْطَتِهِ. وَبِضِيقِهِ عَلَى ضِيقِهِ، وَبِخُمُودِ الْعَيْنِ وَكَلَالِ نَظَرِهَا عَلَى بَلَادَةِ صَاحِبِهَا، وَضَعْفِ حَرَارَةِ قَلْبِهِ. وَبِشِدَّةِ بَيَاضِهَا مَعَ إِشْرَابِهِ بِحُمْرَةٍ - وَهُوَ الشَّكْلُ - عَلَى شَجَاعَتِهِ وَإِقْدَامِهِ وَفِطْنَتِهِ. وَبِتَدْوِيرِهَا مَعَ حُمْرَتِهَا وَكَثْرَةِ تَقَلُّبِهَا عَلَى خِيَانَتِهِ وَمَكْرِهِ وَخِدَاعِهِ.
وَمُعْظَمُ تَعَلُّقِ الْفِرَاسَةِ بِالْعَيْنِ. فَإِنَّهَا مِرْآةُ الْقَلْبِ وَعُنْوَانُ مَا فِيهِ. ثُمَّ بِاللِّسَانِ. فَإِنَّهُ رَسُولُهُ وَتُرْجُمَانُهُ. وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِزُرْقَتِهَا مَعَ شُقْرَةِ صَاحِبِهَا عَلَى رَدَاءَتِهِ. وَبِالْوَحْشَةِ الَّتِي تُرَى عَلَيْهَا عَلَى سُوءِ دَاخِلِهِ وَفَسَادِ طَوِيَّتِهِ.
وَكَالِاسْتِدْلَالِ بِإِفْرَاطِ الشَّعَرِ فِي السُّبُوطَةِ عَلَى الْبَلَادَةِ. وَبِإِفْرَاطِهِ فِي الْجُعُودَةِ عَلَى الشَّرِّ. وَبِاعْتِدَالِهِ عَلَى اعْتِدَالِ صَاحِبِهِ.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْفِرَاسَةِ: أَنَّ اعْتِدَالَ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ: هُوَ مِنِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَالرُّوحِ. وَعَنِ اعْتِدَالِهَا يَكُونُ اعْتِدَالُ الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ. وَبِحَسَبِ انْحِرَافِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ عَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute