للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَذِبٍ وَنِفَاقٍ، فَإِنَّ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ وَأَحْوَالَهُمْ تُنَافِي صِفَاتِ مَنْ هُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ بَيْنَ أُولَئِكَ كَمَثَلِ الطَّيْرِ الْغَرِيبِ بَيْنَ الطُّيُورِ، وَالْكَلْبِ الْغَرِيبِ بَيْنَ الْكِلَابِ.

وَالصِّدِّيقُ هُوَ الَّذِي صَدَقَ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَصَدَّقَ الْحَقَّ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، فَقَدِ انْجَذَبَتْ قُوَاهُ كُلُّهَا لِلِانْقِيَادِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، عَكْسُ الْمُنَافِقِ الَّذِي ظَاهِرُهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ وَقَوْلُهُ خِلَافُ عَمَلِهِ.

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ غُرْبَةُ الْهِمَّةِ]

فَصْلٌ

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: غُرْبَةُ الْهِمَّةِ، وَهِيَ غُرْبَةُ طَلَبِ الْحَقِّ، وَهِيَ غُرْبَةُ الْعَارِفِ؛ لِأَنَّ الْعَارِفَ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ، وَمَصْحُوبَهُ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ، وَمَوْجُودَهُ لَا يَحْمِلُهُ عِلْمٌ أَوْ يُظْهِرُهُ وَجْدٌ، أَوْ يَقُومُ بِهِ رَسْمٌ، أَوْ تُطِيقُهُ إِشَارَةٌ، أَوْ يَشْمَلُهُ اسْمُ غَرِيبٍ، فَغُرْبَةُ الْعَارِفِ غُرْبَةُ الْغُرْبَةِ؛ لِأَنَّهُ غَرِيبُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْغُرْبَةَ الْأُولَى غُرْبَةٌ بِالْأَبْدَانِ. وَالثَّانِيَةَ: غُرْبَةٌ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ. وَهَذِهِ الثَّالِثَةَ: غُرْبَةٌ بِالْهِمَمِ. فَإِنَّ هِمَّةَ الْعَارِفِ حَائِمَةٌ حَوْلَ مَعْرُوفِهِ، فَهُوَ غَرِيبٌ فِي أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَضْلًا عَنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ طَالِبَ الْآخِرَةِ غَرِيبٌ فِي أَبْنَاءِ الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: " لِأَنَّ الْعَارِفَ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ " شَاهِدُ الْعَارِفِ: هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ عِنْدَهُ وَلَهُ بِصِحَّةِ مَا وَجَدَ وَأَنَّهُ كَمَا وَجَدَ، وَبِثُبُوتِ مَا عَرَفَ وَأَنَّهُ كَمَا عَرَفَ.

وَهَذَا الشَّاهِدُ: أَمْرٌ يَجِدُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَهُوَ قُرْبُهُ مِنَ اللَّهِ، وَأُنْسُهُ بِهِ، وَشِدَّةُ شَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِ وَفَرَحِهِ بِهِ، فَهَذَا شَاهِدُهُ فِي سِرِّهِ وَقَلْبِهِ.

وَلَهُ شَاهِدٌ فِي حَالِهِ وَعَمَلِهِ، يُصَدِّقُ هَذَا الشَّاهِدَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ.

وَلَهُ شَاهِدٌ فِي قُلُوبِ الصَّادِقِينَ، يُصَدِّقُ هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ لَا تَشْهَدُ بِالزُّورِ أَلْبَتَّةَ، فَإِذَا أُخْفِيَ عَلَيْكَ شَأْنُكُ وَحَالُكُ، فَاسْأَلْ عَنْكَ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ؛ فَإِنَّهَا تُخْبِرُكَ عَنْ حَالِكَ.

قَوْلُهُ: " وَمَصْحُوبَهُ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ " مَصْحُوبُهُ فِي شَاهِدِهِ؛ هُوَ الَّذِي يَصْحَبُهُ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ، وَهُوَ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَطِقْ طَعْمَ هَذَا الشَّأْنِ، بَلْ هُوَ فِي وَادٍ وَأَهْلُهُ فِي وَادٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>