الدَّرْدَاءِ وَسَلْمَانَ وَالْمِقْدَادِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا قُلْتُ لَهُ زَاهِدٌ؛ لِأَنَّ الزُّهْدَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَلَالِ الْمَحْضِ. وَالْحَلَالُ الْمَحْضُ لَا يُوجَدُ فِي زَمَانِنَا هَذَا. وَأَمَّا الْحَرَامُ فَإِنِ ارْتَكَبْتَهُ عَذَّبَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مُتَعَلِّقِ الزُّهْدِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الزُّهْدُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ فَرِيضَةٌ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلِ الزُّهْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَرَامِ. وَأَمَّا الْحَلَالُ فَنِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ. وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ. فَشُكْرُهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ، وَاتِّخَاذُهَا طَرِيقًا إِلَى جَنَّتِهِ أَفْضَلُ مِنَ الزُّهْدِ فِيهَا، وَالتَّخَلِّي عَنْهَا، وَمُجَانَبَةِ أَسْبَابِهَا.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إِنْ شَغَلَتْهُ عَنِ اللَّهِ. فَالزُّهْدُ فِيهَا أَفْضَلُ. وَإِنْ لَمْ تَشْغَلْهُ عَنِ اللَّهِ، بَلْ كَانَ شَاكِرًا لِلَّهِ فِيهَا، فَحَالُهُ أَفْضَلُ. وَالزُّهْدُ فِيهَا تَجْرِيدُ الْقَلْبِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِهَا، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الزُّهْدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَامَّةِ وَلِلْمُرِيدِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الزُّهْدُ هُوَ إِسْقَاطُ الرَّغْبَةِ عَنِ الشَّيْءِ بِالْكُلِّيَّةِ.
يُرِيدُ بِالشَّيْءِ الْمَزْهُودِ فِيهِ مَا سِوَى اللَّهِ. وَالْإِسْقَاطُ عَنْهُ إِزَالَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ وَإِسْقَاطُ تَعَلُّقِ الرَّغْبَةِ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: بِالْكُلِّيَّةِ؛ أَيْ بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَشَوَّقُ إِلَيْهِ.
قَالَ: وَهُوَ لِلْعَامَّةِ قُرْبَةٌ. وَلِلْمُرِيدِ ضَرُورَةٌ. وَلِلْخَاصَّةِ خَشْيَةٌ.
يَعْنِي أَنَّ الْعَامَّةَ تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ. وَالْقُرْبَةُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُ إِلَى مَحْبُوبِهِ. وَهُوَ ضَرُورَةٌ لِلْمُرِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ التَّخَلِّي بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، إِلَّا بِإِسْقَاطِ الرَّغْبَةِ فِيمَا سِوَى مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى الزُّهْدِ، كَضَرُورَتِهِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. إِذِ التَّعَلُّقُ