عِنْدَ الشُّغْلِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا: فَهَذَا الِالْتِفَاتُ إِلَى تَرْفِيهِهَا لَا يُنَافِي الصِّدْقَ.
بَلْ هَاهُنَا نُكْتَةٌ. وَهِيَ أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتُهُ إِلَيْهَا تَرَفُّهًا وَرَاحَةً. وَأَنْ يَكُونَ مُتَابَعَةً وَمُوَافَقَةً. وَمَعَ هَذَا فَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا تَرَفُّهًا وَرَاحَةً لَا يُنَافِي الصِّدْقَ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا. وَفِيهِ شُهُودُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَتَعْبُّدُهُ بِاسْمِهِ الْبَرِّ، اللَّطِيفِ، الْمُحْسِنِ، الرَّفِيقِ فَإِنَّهُ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ. وَفِي الصَّحِيحِ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا. مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» لِمَا فِيهِ مِنْ رُوحِ التَّعَبُّدِ بِاسْمِ: الرَّفِيقِ، اللَّطِيفِ وَإِجْمَامِ الْقَلْبِ بِهِ لِعُبُودِيَّةٍ أُخْرَى. فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَزَالُ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ. فَإِذَا أَخَذَ بِتَرْفِيهِ رُخْصَةِ مَحْبُوبِهِ: اسْتَعَدَّ بِهَا لِعُبُودِيَّةٍ أُخْرَى. وَقَدْ تَقْطَعُهُ عَزِيمَتُهَا عَنْ عُبُودِيَّةٍ هِيَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، كَالصَّائِمِ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَنْقَطِعُ عَنْ خِدْمَةِ أَصْحَابِهِ، وَالْمُفْطِرِ الَّذِي يَضْرِبُ الْأَخْبِيَةَ، وَيَسْقِي الرُّكَّابِ، وَيَضُمُّ الْمَتَاعَ. وَلِهَذَا قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ» .
أَمَّا الرُّخَصُ التَّأْوِيلِيَّةُ، الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ، وَالْآرَاءِ الَّتِي تُصِيبُ وَتُخْطِئُ: فَالْأَخْذُ بِهَا عِنْدَهُمْ عَيْنُ الْبَطَالَةِ مُنَافٍ لِلصِّدْقِ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الصِّدْقُ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الصِّدْقُ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ. فَإِنَّ الصِّدْقَ لَا يَسْتَقِيمُ - فِي عِلْمِ أَهْلِ الْخُصُوصِ - إِلَّا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ رِضَا الْحَقِّ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، أَوْ حَالِهِ، أَوْ وَقْتِهِ، وَإِيقَانِ الْعَبْدِ وَقَصْدِهِ: بِكَوْنِ الْعَبْدِ رَاضِيًا مَرْضِيًّا. فَأَعْمَالُهُ إِذَنْ مَرَضِيَّةٌ. وَأَحْوَالُهُ صَادِقَةٌ. وَقُصُودُهُ مُسْتَقِيمَةٌ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُسِيَ ثَوْبًا مُعَارًا. فَأَحْسَنُ أَعْمَالِهِ: ذَنْبٌ. وَأَصْدَقُ أَحْوَالِهِ: زُورٌ. وَأَصْفَى قُصُودِهِ: قُعُودٌ.
يَعْنِي أَنَّ الصِّدْقَ الْمُتَحَقِّقَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَدَقَ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَحْصُلُ حَالُ الصِّدْقِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ عِلْمِ الصِّدْقِ.
ثُمَّ عَرَّفَ حَقِيقَةَ الصِّدْقِ. فَقَالَ لَا يَسْتَقِيمُ الصِّدْقُ - فِي عِلْمِ أَهْلِ الْخُصُوصِ - إِلَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute