[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ. وَهُوَ يُورِثُ الْخَلَاصَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ. وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ. وَيُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ الْمَقَامَاتِ.
يُرِيدُ بِالرُّجُوعِ إِلَى السَّبْقِ: الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا سَبَقَتْ بِهِ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ بِمُطَالَعَةِ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ وَجُودِهِ. وَأَنَّ الْعَبْدَ - وَكُلَّ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ - فَهُوَ مَحْضُ جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ذَاتِهِ سِوَى الْعَدَمِ. وَذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَإِيمَانُهُ وَأَعْمَالُهُ كُلُّهَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَإِذَا شَهِدَ هَذَا وَأَحْضَرَهُ قَلْبُهُ. وَتَحَقَّقَ بِهِ: خَلَّصَهُ مِنْ رُؤْيَةِ أَعْمَالِهِ. فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَبِاللَّهِ. وَلَيْسَتْ مِنْهُ هُوَ وَلَا بِهِ.
وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الطَّائِفَةِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَعْمَالِ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ. وَيُخَلِّصُهُ مِنْهَا: شُهُودُ السَّبْقِ، وَمُطَالِعَةُ الْفَضْلِ.
وَقَوْلُهُ: وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ.
لِأَنَّهُ إِذَا طَالَعَ سَبْقَ فَضْلِ اللَّهِ: عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ حَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ مَحْضُ جُودِهِ. فَلَا يَشْهَدُ لَهُ حَالًا مَعَ اللَّهِ وَلَا مَقَامًا، كَمَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ عَمَلًا. فَقَدْ جَعَلَ عُدَّتَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ: فَقْرَهُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ. فَهُوَ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْفَقْرِ الْمَحْضِ. فَالْفَقْرُ خَيْرُ الْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَالنِّسْبَةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ بِهَا إِلَيْهِ، وَالْبَابُ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ الْمَقَامَاتِ.
هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّخَلُّصِ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنْ رُؤْيَةِ شُهُودِ الْأَحْوَالِ، وَمُطَالِعَةُ الْمَقَامَاتِ: دَنَسٌ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ. فَمُطَالَعَةُ الْفَضْلِ يُمَحِّصُ مِنْ هَذَا الدَّنَسِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالِ وَالْمَقَامِ: أَنَّ الْحَالَ مَعْنًى يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اجْتِلَابٍ لَهُ، وَلَا اكْتِسَابٍ، وَلَا تَعَمُّدٍ. وَالْمَقَامُ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِنَوْعِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ.
فَالْأَحْوَالُ عِنْدَهُمْ مَوَاهِبٌ، وَالْمَقَامَاتُ مَكَاسِبٌ. فَالْمَقَامُ يَحْصُلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ. وَأَمَّا الْحَالُ: فَمِنْ عَيْنِ الْجُودِ.
وَلَمَّا دَخَلَ الْوَاسِطِيُّ نَيْسَابُورَ سَأَلَ أَصْحَابَ أَبِي عُثْمَانَ: بِمَاذَا كَانَ يَأْمُرُكُمْ شَيْخُكُمْ؟