للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُ: وَهِيَ الظُّلْمَةُ الَّتِي قَالُوا: إِنَّهَا مَقَامٌ.

يَعْنِي: أَنَّ وَحْشَةَ الِاسْتِتَارِ ظُلْمَةٌ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مَقَامٌ.

وَوَجْهُهُ: أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ يُقِيمُ عَبْدَهُ بِحِكْمَتِهِ فِيهَا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ.

فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ مَقَامًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ: أَنْفَاسُهُ أَنْفَاسُ حُزْنٍ وَأَسَفٍ، وَهَلَاكٍ وَتَلَفٍ، لِمَا حُجِبَ عَنْهُ مِنَ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ فِيهِ.

وَالشَّيْخُ كَأَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ مَقَامًا، فَإِنَّ الْمَقَامَاتِ هِيَ مَنَازِلُ فِي طَرِيقِ الْمَطْلُوبِ فَكُلُّ أَمْرٍ أُقِيمَ فِيهِ السَّالِكُ مِنْ حَالِهِ الَّذِي يُقَدِّمُهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ: فَهُوَ مَقَامٌ، وَأَمَّا وَحْشَةُ الِاسْتِتَارِ: فَهِيَ تَأَخُّرٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَقَدُّمٌ، فَكَيْفَ تُسَمَّى مَقَامًا؟ بَلْ هِيَ ضِدُّ الْمَقَامِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَحْشَةَ الِاسْتِتَارِ لَيْسَتْ مَقَامًا: أَنَّ كُلَّ مَقَامٍ فَهُوَ تَعَلُّقٌ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ عَلَى وَجْهِ الثُّبُوتِ، وَحَقِيقَتُهُ: بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بِالْمُقِيمِ لَا بِالْمَقَامِ.

وَأَمَّا حَالُ الِاسْتِتَارِ: فَهُوَ حَالُ انْقِطَاعٍ عَنْ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ الْمَذْكُورِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ لَهُ وَجْهَيْنِ؛ هُوَ مِنْ أَحَدِهِمَا: ظُلْمَةٌ وَوَحْشَةٌ. وَمِنَ الثَّانِي: مَقَامٌ، فَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ لَيْسَ مَقَامًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ: فَهُوَ مَقَامٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

[فَصْلٌ الثَّانِي نَفَسٌ فِي حِينِ التَّجَلِّي]

فَصْلٌ

قَالَ: وَالنَّفَسُ الثَّانِي: نَفَسٌ فِي حِينِ التَّجَلِّي، وَهُوَ نَفَسٌ شَاخِصٌ عَنْ مَقَامِ السُّرُورِ إِلَى رَوْحِ الْمُعَايَنَةِ، مَمْلُوءٌ مِنْ نُورِ الْوُجُودِ، شَاخِصٌ إِلَى مُنْقَطَعِ الْإِشَارَةِ.

هَذَا النَّفَسُ أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ وَظُلْمَةٍ، وَهَذَا نَفَسٌ فِي حَالِ تَجَلٍّ وَنُورِهِ، وَحِينَ التَّجَلِّي: هُوَ زَمَانُ حُصُولِ الْكَشْفِ، وَالتَّجَلِّي مُشْتَقٌّ مِنَ الْجِلْوَةِ، قِيلَ: وَحَقِيقَتُهُ إِشْرَاقُ نُورِ الْحَقِّ عَلَى قُلُوبِ الْمُرِيدِينَ.

فَإِنْ أَرَادُوا إِشْرَاقَ نُورِ الذَّاتِ فَغَلَطٌ شَنِيعٌ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: احْتَرِزْ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ " إِشْرَاقُ نُورِ الصِّفَاتِ ".

فَإِنْ أَرَادُوا أَيْضًا إِشْرَاقَ نَفْسِ الصِّفَةِ فَغَلَطٌ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّجَلِّيَ الذَّاتِيَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>