[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِنَابَةِ]
[مَعْنَى الْإِنَابَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا]
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ نَزَلَ مِنْ مَنْزِلِ التَّوْبَةِ وَقَامَ فِي مَقَامِهَا نَزَلَ فِي جَمِيعِ مَنَازِلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْكَامِلَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لَهَا، وَهِيَ مُنْدَرِجَةٌ فِيهَا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِفْرَادِهَا بِالذِّكْرِ وَالتَّفْصِيلِ، تَبْيِينًا لِحَقَائِقِهَا وَخَوَاصِّهَا وَشُرُوطِهَا.
فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي مَنْزِلِ التَّوْبَةِ نَزَلَ بَعْدَهُ مَنْزِلَ الْإِنَابَةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَأَثْنَى عَلَى خَلِيلِهِ بِهَا، فَقَالَ {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: ٥٤] وَقَالَ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: ٧٥] وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَاتِهِ إِنَّمَا يَتَبَصَّرُ بِهَا وَيَتَذَكَّرُ أَهْلُ الْإِنَابَةِ، فَقَالَ {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: ٦] إِلَى أَنْ قَالَ {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: ٨] وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: ١٣] وَقَالَ تَعَالَى {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الروم: ٣١] الْآيَةَ
" فَمُنِيبِينَ " مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي قَوْلِهِ " {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: ٣٠] " لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، أَيْ أَقِمْ وَجْهَكَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: ١] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠] أَيْ فَطَرَهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، فَلَوْ خُلُّوا وَفَطَرَهُمْ لَمَا عَدَلَتْ عَنِ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا تَتَحَوَّلُ وَتَتَغَيَّرُ عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى الْمِلَّةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ» وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ دَاوُدَ {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: ٢٤] وَأَخْبَرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute