التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّكَ بِالْمَحْبُوبِ مَشْغُولًا، وَذَلِكَ لَهُ مَبْذُولًا.
الثَّلَاثُونَ: وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ مَا قِيل فِيهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ: جَرَتْ مَسْأَلَةٌ فِي الْمَحَبَّةِ بِمَكَّةَ - أَعَزَّهَا اللَّهُ تَعَالَى - أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا. وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا. فَقَالُوا: هَاتِ مَا عِنْدَكَ يَا عِرَاقِيُّ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ: عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ نَفْسِهِ، مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ، قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، أَحْرَقَتْ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَيْبَتِهِ. وَصَفَا شُرْبُهُ مِنْ كَأْسِ وُدِّهِ. وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ. فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاللَّهِ. وَإِنْ نَطَقَ فَعَنِ اللَّهِ. وَإِنْ تَحَرَّكَ فَبِأَمْرِ اللَّهِ. وَإِنْ سَكَنَ فَمَعَ اللَّهِ. فَهُوَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ.
فَبَكَى الشُّيُوخُ وَقَالُوا: مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ. جَزَاكَ اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ.
[فصل أسباب المحبة]
فِي الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْمَحَبَّةِ، وَالْمُوجِبَةِ لَهَا وَهِيَ عَشَرَةٌ.
أَحَدُهَا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ وَمَا أُرِيدَ بِهِ، كَتَدَبُّرِ الْكِتَابِ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْعَبْدُ وَيَشْرَحُهُ. لِيَتَفَهَّمَ مُرَادَ صَاحِبِهِ مِنْهُ.
الثَّانِي: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ. فَإِنَّهَا تُوَصِّلُهُ إِلَى دَرَجَةِ الْمَحْبُوبِيَّةِ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ.
الثَّالِثُ: دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ: بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ. فَنَصِيبُهُ مِنَ الْمَحَبَّةِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ.
الرَّابِعُ: إِيثَارُ مَحَابِّهِ عَلَى مَحَابِّكَ عِنْدَ غَلَبَاتِ الْهَوَى، وَالتَّسَنُّمُ إِلَى مَحَابِّهِ، وَإِنْ صَعُبَ الْمُرْتَقَى.
الْخَامِسُ: مُطَالَعَةُ الْقَلْبِ لِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمُشَاهَدَتُهَا وَمَعْرِفَتُهَا. وَتَقَلُّبُهُ فِي رِيَاضِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَمَبَادِيهَا. فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ: أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ. وَلِهَذَا كَانَتِ الْمُعَطِّلَةُ وَالْفِرْعَوْنِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ عَلَى الْقُلُوبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَحْبُوبِ.
السَّادِسُ: مُشَاهَدَةُ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَآلَائِهِ، وَنِعَمِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ. فَإِنَّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى مَحَبَّتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute