للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَكَانَ حَالَ اشْتِغَالِ حُبٍّ وَشَوْقٍ، وَلَذَّةِ مُنَاجَاةٍ، لَا أَحْلَى مِنْهَا وَلَا أَطْيَبَ، بِحَسَبِ اسْتِغْرَاقِهِ فِي شُهُودِ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ. وَحَظِّهِ مِنْ أَثَرِهِ.

فَإِنَّ الْوَدُودَ - وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَوْدُودِ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: الْوَدُودُ الْحَبِيبُ - وَاسْتِغْرَاقُ الْعَبْدِ فِي مُطَالَعَةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي تَدْعُو الْعَبْدَ إِلَى حُبِّ الْمَوْصُوفِ بِهَا: أَثْمَرَ لَهُ صَفَاءَ عِلْمِهِ بِهَا، وَصَفَاءَ حَالِهِ فِي تَعَبُّدِهِ بِمُقْتَضَاهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهَا.

وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الْوَادِّ وَهُوَ الْمُحِبُّ: أَثْمَرَتْ لَهُ مُطَالَعَةُ ذَلِكَ حَالًا تُنَاسِبُهُ.

فَإِنَّهُ إِذَا شَاهَدَ بِقَلْبِهِ غَنِيًّا كَرِيمًا جَوَادًا، عَزِيزًا قَادِرًا، كُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ. وَهُوَ غَنِيٌّ بِالذَّاتِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَهُوَ - مَعَ ذَلِكَ - يَوَدُّ عِبَادَهُ وَيُحِبُّهُمْ، وَيَتَوَدَّدُ إِلَيْهِمْ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ -: كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا الشُّهُودِ حَالَةٌ صَافِيَةٌ خَالِصَةٌ مِنَ الشَّوَائِبِ.

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. فَصَفَاءُ الْحَالِ بِحَسَبِ صَفَاءِ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَخُلُوصِهَا مِنْ دَمِ التَّعْطِيلِ وَفَرْثِ التَّمْثِيلِ. فَتَخْرُجُ الْمَعْرِفَةُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ فِطْرَةً خَالِصَةً سَائِغَةً لِلْعَارِفِينَ. كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ.

وَالْأَمْرُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ " وَيُنْسَى بِهِ الْكَوْنُ " أَيْ يُنْسَى الْكَوْنُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى قَلْبِهِ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِهَذِهِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَوْنِ: الْمَخْلُوقَاتُ. أَيْ يَشْتَغِلُ بِالْحَقِّ عَنِ الْخَلْقِ.

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ صَفَاءُ اتِّصَالٍ]

فَصْلٌ

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: صَفَاءُ اتِّصَالٍ. يُدْرِجُ حَظَّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَيُغْرِقُ نِهَايَاتِ الْخَبَرِ فِي بِدَايَاتِ الْعِيَانِ، وَيَطْوِي خِسَّةَ التَّكَالِيفِ فِي عَيْنِ الْأَزَلِ.

فِي هَذَا اللَّفْظِ قَلَقٌ وَسُوءُ تَعْبِيرٍ. يَجْبُرُهُ حُسْنُ حَالِ صَاحِبِهِ وَصِدْقِهِ، وَتَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلَكِنْ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ إِلَّا لَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ بَيْنَ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَبَيْنَ أَصْحَابِ التَّمَكُّنِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا. وَانْظُرْ إِلَى غَلَبَةِ الْحَالِ عَلَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا شَاهَدَ آثَارَ التَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ عَلَى الْجَبَلِ، كَيْفَ خَرَّ صَعِقًا؟ وَصَاحِبُ التَّمَكُّنِ - صَلَوَاتُ

<<  <  ج: ص:  >  >>