وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى - إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: ٩ - ١٠] .
وَوَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ: أَنَّ النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى كَانَتْ مَبْدَأً فِي طَرِيقِ نُبُوَّتِهِ.
وَ " الْبَرْقُ " مَبْدَأٌ فِي طَرِيقِ الْوَلَايَةِ الَّتِي هِيَ وِرَاثَةُ النُّبُوَّةِ.
وَقَوْلُهُ " بَاكُورَةٌ: الْبَاكُورَةُ هِيَ أَوَّلُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ بَاكُورَةُ الثِّمَارِ. وَهُوَ لِمَا سَبَقَ نَوْعَهُ فِي النُّضْجِ.
وَقَوْلُهُ " يَلْمَعُ لِلْعَبْدِ " أَيْ يَبْدُو لَهُ وَيَظْهَرُ " فَتَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ " وَلَمْ يُرِدْ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَايَاتِ. فَإِنَّ تِلْكَ هِيَ الْيَقَظَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: طَرِيقَ أَرْبَابِ التَّوَسُّطِ وَالنِّهَايَاتِ.
وَعَلَى هَذَا: فَالْبَرْقُ - الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ - هُوَ بَرْقُ الْأَحْوَالِ، لَا بَرْقُ الْأَعْمَالِ، أَوْ بَرْقٌ لَا سَبَبَ لَهُ مِنَ السَّالِكِ. إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَوْهِبَةٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ التَّوَسُّطِ وَالنِّهَايَاتِ: أَنَّهُ أَخَذَ - بَعْدَ تَعْرِيفِهِ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْدِ.
فَقَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْدِ: أَنَّ الْوَجْدَ يَقَعُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ. وَالْبَرْقُ قَبْلَهُ. فَالْوَجْدُ زَادٌ. وَالْبَرْقُ إِذْنٌ.
يُرِيدُ: أَنَّ الْبَرْقَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيُبْدِيهِ لَهُ. فَيَدْعُوهُ بِهِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ. وَالْوَجْدُ هُوَ شِدَّةُ الطَّلَبِ، وَقُوَّتُهُ الْمُوجِبَةُ لِتَأْجِيجِ اللَّهِيبِ مِنَ الشُّهُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَ " الْوَجْدُ زَادٌ " يَعْنِي: أَنَّهُ يَصْحَبُ السَّالِكَ كَمَا يَصْحَبُهُ زَادُهُ. بَلْ هُوَ مِنْ نَفَائِسِ زَادِهِ وَ " الْبَرْقُ إِذْنٌ " يَعْنِي إِذْنًا فِي السُّلُوكِ، وَالْإِذْنُ إِنَّمَا يُفْسِحُ لِلسَّالِكِ فِي الْمَسِيرِ لَا غَيْرَ.
[دَرَجَاتُ الْبَرْقِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْعِدَةِ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ]
قَالَ: وَهُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْعِدَةِ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ. فَيَسْتَكْثِرُ فِيهِ الْعَبْدُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَطَاءِ، وَيَسْتَقِلُّ فِيهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْإِعْيَاءِ، وَيَسْتَحْلِي فِيهِ مَرَارَةَ الْقَضَاءِ.