للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنِ اللَّهِ، غَيْرُ عَارِفٍ بِهِ وَبِمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَبِحَسَبِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَمَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ يَسْتَكْثِرُ ذُنُوبَهُ وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِهِ، لِمُشَاهَدَتِهِ الْحَقَّ وَمُسْتَحَقَّهُ، وَتَقْصِيرِهِ فِي الْقِيَامِ بِهِ، وَإِيقَاعِهِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ الْمُوَافِقِ لِمَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ وَيَرْضَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

إِذَا عَرَفَ هَذَا، فَاسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ الْمَعْصِيَةَ عَيْنُ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ، وَجَهْلٌ بِقَدْرِ مَنْ عَصَاهُ وَبِقَدْرِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُبَارَزَةً لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَصْغَرَ الْمَعْصِيَةَ وَاسْتَقَلَّهَا هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا، وَخَفَّتْ عَلَى قَلْبِهِ، وَذَلِكَ نَوْعُ مُبَارَزَةٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَحْضُ التَّزَيُّنِ بِالْحَمِيَّةِ، أَيْ بِالْمُحَامَاةِ عَنِ النَّفْسِ، وَإِظْهَارِ بَرَاءَةِ سَاحَتِهَا، لَا سِيَّمَا إِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ الْحَقِيقَةِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ، وَقَوْلُهُ: وَأَيُّ ذَنْبٍ لِي، وَالْمُحَرِّكُ لِي غَيْرِي، وَالْفَاعِلُ فِيَّ سِوَايَ؟ وَإِنَّمَا أَنَا كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ؟ وَمَا حِيلَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ، وَمَا قُدْرَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ؟ وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْجُرْأَةَ عَلَى اللَّهِ وَمُبَارَزَتَهُ، وَالْمُحَامَاةَ عَنِ النَّفْسِ، وَاسْتِصْغَارَ ذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ إِذَا أَضَافَهَا إِلَى الْحُكْمِ، فَيَسْتَرْسِلُ إِذًا لِلْقَطِيعَةِ وَهِيَ الْمُقَاطَعَةُ لِرَبِّهِ وَالِانْقِطَاعُ عَنْهُ، فَيَصِيرُ خَصْمًا لِلَّهِ مَعَ نَفْسِهِ وَشَيْطَانِهِ، وَهَذَا حَالُ الْمُحْتَجِّينَ بِالْقَدَرِ عَلَى الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ مَعَ الشَّيَاطِينِ وَالنُّفُوسِ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا غَايَةُ الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ اللَّهِ؟ .

فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ كَانَتْ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ مِنِ اسْتِكْثَارِ الطَّاعَاتِ؟ وَتَوْبَةُ مَنْ هُمْ أَخَصُّ مِنْهُمْ، وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنِ اسْتِقْلَالِ الْمَعْصِيَةِ؟ وَهَلَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالضِّدِّ؟ .

قُلْتُ: الْأَوْسَاطُ لَمَّا كَانُوا أَشَدَّ طَلَبًا لِعُيُوبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَأَكْثَرَ تَفْتِيشًا عَلَيْهَا انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ مَا لَمْ يَنْكَشِفْ لِلْعَامَّةِ، وَحَرَصَ هَؤُلَاءِ عَلَى تَنْقِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْآفَاتِ، وَالتَّفْتِيشِ عَلَى عُيُوبِ الْأَعْمَالِ، فَاسْتِقْلَالُ السَّيِّئَاتِ آفَةُ هَؤُلَاءِ، وَقَاطِعُ طَرِيقِهِمْ، وَاسْتِكْثَارُ الْحَسَنَاتِ وَعِظَمُهَا فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ آفَتُهُمْ، وَقَاطِعُ طَرِيقِهِمْ، فَذِكْرُ مَا هُوَ الْأَخَصُّ الْأَغْلَبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ.

[فَصْلٌ تَوْبَةُ الْخَوَاصِّ]

قَالَ: وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ مِنْ تَضْيِيعِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى دَرْكِ النَّقِيصَةِ، وَيُطْفِئُ نُورَ الْمُرَاقَبَةِ، وَيُكَدِّرُ عَيْنَ الصُّحْبَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>