وَفَنِيَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَنْهُمَا، فَتَوَسَّطَ بَحْرَ جَمْعِ السِّرِّ وَالْقَلْبِ وَالْهَمِّ عَلَى اللَّهِ، وَجَاوَزَ حَدَّ التَّفْرِقَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ امْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ: " {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: ١٠٣] " اسْتَسْلَمَا وَانْقَادَا لِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ مُنَازَعَةٌ لَا مِنَ الْوَالِدِ وَلَا مِنَ الْوَلَدِ، بَلِ اسْتِسْلَامٌ صِرْفٌ وَتَسْلِيمٌ مَحْضٌ.
قَوْلُهُ: " {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الفاتحة: ١٠٣ - ٣١٨٧٠] " أَيْ: صَرَعَهُ عَلَى جَبِينِهِ، وَهُوَ جَانِبُ الْجَبْهَةِ الَّذِي يَلِي الْأَرْضَ عِنْدَ النَّوْمِ، وَتِلْكَ هِيَ هَيْئَةُ مَا يُرَادُ ذَبْحُهُ.
قَوْلُهُ: " تَوَسَّطَ الْمَقَامَ " لَا يُرِيدُ بِهِ مَقَامًا مُعَيَّنًا، وَلِذَلِكَ أَبْهَمَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَ " الْمَقَامُ " عِنْدَهُمْ: مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِ، وَلَهُ بِدَايَةٌ وَتَوَسُّطٌ وَنِهَايَةٌ، فَ " الْغَرَقُ " الْمُشَارُ إِلَيْهِ: أَنْ يَصِيرَ فِي وَسَطِ الْمَقَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْغَرَقُ أَخَصُّ بِنِهَايَةِ الْمَقَامِ مِنْ تَوَسُّطِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ الشَّيْخُ تَوَسُّطًا فِيهِ؟
قُلْتُ: لَمَّا كَانَتْ هِمَّةُ الطَّالِبِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَجْمُوعَةٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ مُعْرِضٌ عَمَّا سِوَاهُ، قَدْ فَارَقَ مَقَامَ التَّفْرِقَةِ، وَجَاوَزَ حَدَّهَا إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، فَابْتَدَأَ فِي الْمَقَامِ وَأَوَّلُ كُلِّ مَقَامٍ يُشْبِهُ آخِرَ الَّذِي قَبْلَهُ فَلَمَّا تَوَسَّطَ فِيهِ اسْتَغْرَقَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ وَإِرَادَتَهُ، كَمَا يَغْرَقُ مَنْ تَوَسَّطَ اللُّجَّةَ فِيهَا قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى آخِرِهَا.
[دَرَجَاتُ الْغَرَقِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى اسْتِغْرَاقُ الْعِلْمِ فِي عَيْنِ الْحَالِ]
قَوْلُهُ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ؛ الدَّرَجَةُ الْأُولَى: اسْتِغْرَاقُ الْعِلْمِ فِي عَيْنِ الْحَالِ، وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ ظَفِرَ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَتَحَقَّقَ فِي الْإِشَارَةِ، فَاسْتَحَقَّ صِحَّةَ النِّسْبَةِ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي بَدَأَ بِهَا هِيَ أَوَّلُ دَرَجَاتِهِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِالشَّيْءِ وَلَا يَكُونُ مُتَّصِفًّا بِالتَّخَلُّقِ بِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، فَالْعِلْمُ شَيْءٌ وَالْحَالُ شَيْءٌ آخَرٌ. فَعِلْمُ الْعِشْقِ وَالصِّحَّةِ وَالشُّكْرِ وَالْعَافِيَةِ غَيْرُ حُصُولِهَا وَالِاتِّصَافِ بِهَا، فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ صَارَ عِلْمُهُ بِهَا كَالْمَغْفُولِ عَنْهُ، وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ، بَلْ صَارَ الْحُكْمُ لِلْحَالِ.
فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْرِفُ الْخَوْفَ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ، وَلَكِنْ إِذَا اتَّصَفَ بِالْخَوْفِ وَبَاشَرَ الْخَوْفُ قَلْبَهُ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الْخَوْفِ وَالِانْزِعَاجِ، وَاسْتَغْرَقَ عِلْمُهُ فِي حَالِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ عِلْمَهُ لِغَلَبَةِ حَالِهِ عَلَيْهِ.