يَعْنِي بِالْعِدَةِ: مَا وَعَدَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَعِنْدَ اللِّقَاءِ.
وَقَوْلُهُ " يَلْمَعُ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ " أَيْ يَبْدُو فِي حَقِيقَةِ الرَّجَاءِ مِنْ أُفُقِهِ وَنَاحِيَتِهِ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ اسْتِكْثَارَ الْقَلِيلِ - وَلَا قَلِيلَ مِنَ اللَّهِ - مِنْ عَطَائِهِ، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاسْتِكْثَارِ: أَرْبَعَةُ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: نَظَرُهُ إِلَى جَلَالَةِ مُعْطِيهِ وَعَظَمَتِهِ.
الثَّانِي: احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ. فَإِنَّ ازْدِرَاءَهُ لَهَا: يُوجِبُ اسْتِكْثَارَ مَا يَنَالُهُ مِنْ سَيِّدِهِ.
الثَّالِثُ: مَحَبَّتُهُ لَهُ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا تَمَكَّنَتْ مِنَ الْعَبْدِ اسْتَكْثَرَ قَلِيلَ مَا يَنَالُهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا - قَبْلَ الْعَطَاءِ - لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلْفٌ بِهِ، وَلَا اتِّصَالٌ بِالْعَطِيَّةِ. فَلَمَّا فَاجَأَتْهُ: اسْتَكْثَرَهَا.
وَأَمَّا اسْتِقْلَالُهُ الْكَثِيرَ مِنَ الْإِعْيَاءِ - وَهُوَ التَّعَبُ وَالنَّصَبُ - فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَدَا لَهُ بَرْقُ الْوُعُودِ مِنْ أُفُقِ الرَّجَاءِ: حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْجِدِّ وَالطَّلَبِ. وَحَمَلَ عَنْهُ مَشَقَّةَ السَّيْرِ. فَلَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مِنْ مَسِّ الْإِعْيَاءِ وَالنَّصَبِ مَا يَجِدُهُ مَنْ لَمْ يَشُمَّ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ اسْتِحْلَاؤُهُ - فِي هَذَا الْبَرْقِ - مَرَارَةَ الْقَضَاءِ وَهُوَ الْبَلَاءُ الَّذِي يَخْتَبِرُ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ، لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَصْبَرُ وَأَصْدَقُ، وَأَعْظَمُ إِيمَانًا، وَمَحَبَّةً وَتَوَكُّلًا وَإِنَابَةً؟ فَإِذَا لَاحَ لِلسَّالِكِ هَذَا الْبَرْقُ: اسْتَحْلَى فِيهِ مَرَارَةَ الْقَضَاءِ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْوَعِيدِ فِي عَيْنِ الْحَذَرِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْوَعِيدِ فِي عَيْنِ الْحَذَرِ. فَيَسْتَقْصِرُ فِيهِ الْعَبْدُ الطَّوِيلَ مِنَ الْأَمَلِ، وَيَزْهَدُ فِي الْخَلْقِ عَلَى الْقُرْبِ. وَيَرْغَبُ فِي تَطْهِيرِ السِّرِّ.
هَذَا الْبَرْقُ أُفُقُهُ وَعَيْنُهُ: غَيْرُ أُفُقِ الْبَرْقِ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ هَذَا يَلْمَعُ مِنْ أُفُقِ الْحَذَرِ، وَذَاكَ مِنْ أُفُقِ الرَّجَاءِ. فَإِذَا شَامَ هَذَا الْبَرْقَ: اسْتَقْصَرَ فِيهِ الطَّوِيلَ مِنَ الْأَمَلِ. وَتَخَيَّلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ: أَنَّ الْمَنِيَّةَ تُعَافِصَهُ وَتُفَاجِئُهُ.
فَاشْتَدَّ حَذَرُهُ مِنْ هُجُومِهَا، مَخَافَةَ أَنْ تَحِلَّ بِهِ عُقُوبَةُ اللَّهِ، وَيُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِعْتَابِ وَالتَّأَهُّبِ لِللِّقَاءِ. فَيَلْقَى رَبَّهُ قَبْلَ الطُّهْرِ التَّامِّ. فَلَا يُؤْذَنُ لَهُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ. كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ لِلصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ.