وَكَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ جِنَايَتِهِ. وَهَذَا الِاسْتِقْبَاحُ الْحَاصِلُ بِالْحَيَاءِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى اسْتِقْبَاحِ مُلَاحَظَةِ الْوَعِيدِ. وَهُوَ فَوْقَهُ.
وَأَرْفَعُ مِنْهُ دَرَجَةً: الِاسْتِقْبَاحُ الْحَاصِلُ عَنِ الْمَحَبَّةِ. فَاسْتِقْبَاحُ الْمُحِبِّ أَتَمُّ مِنِ اسْتِقْبَاحِ الْخَائِفِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْحَيَاءَ يَكُفُّ الْعَبْدَ أَنْ يَشْتَكِيَ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَيَكُونَ قَدْ شَكَا اللَّهَ إِلَى خَلْقِهِ. وَلَا يَمْنَعُ الشَّكْوَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. فَإِنَّ الشَّكْوَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَقْرٌ، وَذِلَّةٌ، وَفَاقَةٌ، وَعُبُودِيَّةٌ. فَالْحَيَاءُ مِنْهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لَا يُنَافِيهَا.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ. فَيَدْعُوهُ إِلَى رُكُوبِ الْمَحَبَّةِ. وَيَرْبُطُهُ بِرُوحِ الْأُنْسِ. وَيُكَرِّهُ إِلَيْهِ مُلَابَسَةَ الْخَلْقِ.
النَّظَرُ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ: تَحَقُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ. وَهِيَ: مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: ٤] وَقَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: ٧] .
وَخَاصَّةٌ: وَهِيَ مَعِيَّةُ الْقُرْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: ١٢٨] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ١٥٣] وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: ٦٩] .
فَهَذِهِ مَعِيَّةُ قُرْبٍ. تَتَضَمَّنُ الْمُوَالَاةَ، وَالنَّصْرَ، وَالْحِفْظَ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُصَاحَبَةٌ مِنْهُ لِلْعَبْدِ. لَكِنَّ هَذِهِ مُصَاحَبَةُ اطِّلَاعٍ وَإِحَاطَةٍ. وَهَذِهِ مُصَاحَبَةُ مُوَالَاةٍ وَنَصْرٍ وَإِعَانَةٍ. فَ " مَعَ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تُفِيدُ الصُّحْبَةَ اللَّائِقَةَ، لَا تُشْعِرُ بِامْتِزَاجٍ وَلَا اخْتِلَاطٍ، وَلَا مُجَاوَرَةٍ، وَلَا مُجَانَبَةٍ. فَمَنْ ظَنَّ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ هَذَا فَمِنْ سُوءِ فَهْمِهِ أُتِيَ.
وَأَمَّا الْقُرْبُ: فَلَا يَقَعُ الْقُرْآنُ إِلَّا خَاصًّا. وَهُوَ نَوْعَانِ: قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ بِالْإِجَابَةِ. وَقُرْبُهُ مِنْ عَابِدِهِ بِالْإِثَابَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute