وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْيَقِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: يَقِينُ خَبَرٍ. وَيَقِينُ دَلَالَةٍ. وَيَقِينُ مُشَاهَدَةٍ.
يُرِيدُ بِيَقِينِ الْخَبَرِ: سُكُونَ الْقَلْبِ إِلَى خَبَرِ الْمُخْبِرِ وَتَوَثُّقَهُ بِهِ. وَبِيَقِينِ الدَّلَالَةِ: مَا هُوَ فَوْقَهُ. وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ لَهُ - مَعَ وُثُوقِهِ بِصِدْقِهِ - الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ.
وَهَذَا كَعَامَّةِ أَخْبَارِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ - مَعَ كَوْنِهِ أَصْدَقَ الصَّادِقِينَ - يُقِيمُ لِعِبَادِهِ الْأَدِلَّةَ وَالْأَمْثَالَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ أَخْبَارِهِ. فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْيَقِينُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَمِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ.
فَيَرْتَفِعُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: وَهِيَ يَقِينُ الْمُكَاشَفَةِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمُخْبَرُ بِهِ لِقُلُوبِهِمْ كَالْمَرْئِيِّ لِعُيُونِهِمْ. فَنِسْبَةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ حِينَئِذٍ إِلَى الْقَلْبِ: كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ. وَهَذَا أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَةِ. وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عَامِرُ بْنُ عَبَدِ قَيْسٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِنْ قَوْلِ عَلَيٍّ - كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْمَنْقُولَاتِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقِيقَةً. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمَا بِعَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنَيْهِ: آثَرُ عِنْدِي مِنْ رُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنِي. فَإِنَّ بَصَرِي قَدْ يَطْغَى وَيَزِيغُ، بِخِلَافِ بَصَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْيَقِينُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَهْوَالِ، وَرُكُوبِ الْأَخْطَارِ. وَهُوَ يَأْمُرُ بِالتَّقَدُّمِ دَائِمًا. فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ الْعِلْمُ: حُمِلَ عَلَى الْمَعَاطِبِ.
وَالْعِلْمُ يَأْمُرُ بِالتَّأَخُّرِ وَالْإِحْجَامِ. فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْيَقِينُ قَعَدَ بِصَاحِبِهِ عَنِ الْمَكَاسِبِ وَالْغَنَائِمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ تَعْرِيفُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِلْيَقِينِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْيَقِينُ: مَرْكِبُ الْآخِذِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ. وَهُوَ غَايَةُ دَرَجَاتِ الْعَامَّةِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ خُطْوَةٍ لِلْخَاصَّةِ.
لَمَّا كَانَ الْيَقِينُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ - كَمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: الْعِلْمُ مَا اسْتَعْمَلَكَ. وَالْيَقِينُ مَا حَمَلَكَ - سَمَّاهُ مَرْكِبًا يَرْكَبُهُ السَّائِرُ إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَوْلَا الْيَقِينُ مَا سَارَ