للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ - وَهُوَ مَعْلُومٌ لَهُ، كَمَا يَعْلَمُ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَعْلُومٌ لَهُ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ - وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنْزَلَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمِهِ، فَنُزُولُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمِهِ هُوَ آيَةُ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: ٦] ذَكَرَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ تَكْذِيبًا وَرَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: افْتَرَاهُ.

[فَصْلٌ مِنْ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ مِنَ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ بِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ]

فَصْلٌ

وَمِنْ شَهَادَتِهِ أَيْضًا: مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ: مِنَ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ، وَالْيَقِينِ الثَّابِتِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ حُصُولَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ يُوقِعُ أَعْظَمَ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ، وَتَدْفَعُهُ الْفِطَرُ وَالْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، كَمَا تَدْفَعُ الْفِطَرُ - الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ - الْأَغْذِيَةَ الْخَبِيثَةَ الضَّارَّةَ الَّتِي لَا تُغَذِّي، كَالْأَبْوَالِ وَالْأَنْتَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَطَرَ الْقُلُوبَ عَلَى قَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِهِ، وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَفَطَرَهَا عَلَى بُغْضِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، وَالنُّفُورِ عَنْهُ، وَالرِّيبَةِ بِهِ، وَعَدَمِ السُّكُونِ إِلَيْهِ، وَلَوْ بَقِيَتِ الْفِطَرُ عَلَى حَالِهَا لَمَا آثَرَتْ عَلَى الْحَقِّ سِوَاهُ، وَلَمَا سَكَنَتْ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا اطْمَأَنَّتْ إِلَّا بِهِ، وَلَا أَحَبَّتْ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا نَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ إِلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَدَبَّرَهُ أَوْجَبَ لَهُ تَدَبُّرُهُ عِلْمًا ضَرُورِيًا وَيَقِينًا جَازِمًا: أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، بَلْ أَحَقُّ كُلَّ الْحَقِّ، وَأَصْدَقُ كُلَّ صِدْقٍ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَصْدَقُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَبَرُّهُمْ، وَأَكْمَلُهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَمَعْرِفَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: ٢٤] فَلَوْ رُفِعَتِ الْأَقْفَالُ عَنِ الْقُلُوبِ لَبَاشَرَتْهَا حَقَائِقُ الْقُرْآنِ، وَاسْتَنَارَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ الْإِيمَانِ، وَعَلِمْتَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَكُونُ عِنْدَهَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ - مِنَ الْفَرَحِ، وَالْأَلَمِ، وَالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ - أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، وَبَلَّغَهُ رَسُولُهُ جِبْرِيلُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، فَهَذَا الشَّاهِدُ فِي الْقَلْبِ مِنْ أَعْظَمِ الشَّوَاهِدِ، وَبِهِ احْتَجَّ هِرَقْلُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ حَيْثُ قَالَ لَهُ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً

<<  <  ج: ص:  >  >>