وَصَاحِبُ الْخُلُقِ الْوَسَطِ: مَهِيبٌ مَحْبُوبٌ، عَزِيزٌ جَانِبُهُ، حَبِيبٌ لِقَاؤُهُ. وَفِي صِفَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ. وَمَنْ خَالَطَهُ عِشْرَةً أَحَبَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ تَغْيِيرُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيْهَا]
فَصْلٌ
نَافِعٌ جِدًّا عَظِيمُ النَّفْعِ لِلسَّالِكِ. يُوصِلُهُ عَنْ قَرِيبٍ، وَيُسَيِّرُهُ بِأَخْلَاقِهِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا. فَإِنَّ أَصْعَبَ مَا عَلَى الطَّبِيعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ: تَغْيِيرُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيْهَا. وَأَصْحَابُ الرِّيَاضَاتِ الصَّعْبَةِ وَالْمُجَاهَدَاتِ الشَّاقَّةِ إِنَّمَا عَمِلُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَظْفَرْ أَكْثَرُهُمْ بِتَبْدِيلِهَا. لَكِنَّ النَّفْسَ اشْتَغَلَتْ بِتِلْكَ الرِّيَاضَاتِ عَنْ ظُهُورِ سُلْطَانِهَا. فَإِذَا جَاءَ سُلْطَانُ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَبَرَزَ: كَسَرَ جُيُوشَ الرِّيَاضَةِ وَشَتَّتَهَا. وَاسْتَوْلَى عَلَى مَمْلَكَةِ الطَّبْعِ.
وَهَذَا فَصْلٌ يَصِلُ بِهِ السَّالِكُ مَعَ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ. وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجِهَا وَإِزَالَتِهَا. وَيَكُونُ سَيْرُهُ أَقْوَى وَأَجَلَّ وَأَسْرَعَ مِنْ سَيْرِ الْعَامِلِ عَلَى إِزَالَتِهَا.
وَنُقَدِّمُ قَبْلَ هَذَا مَثَلًا نَضْرِبُهُ. مُطَابِقًا لِمَا نُرِيدُهُ. وَهُوَ: نَهْرٌ جَارٍ فِي صَبَبِهِ وَمُنْحَدَرِهِ، وَمُنْتَهٍ إِلَى تَغْرِيقِ أَرْضٍ وَعُمْرَانٍ وَدُورٍ. وَأَصْحَابُهَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي حَتَّى يُخَرِّبَ دُورَهُمْ. وَيُتْلِفَ أَرَاضِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. فَانْقَسَمُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ.
فِرْقَةٌ صَرَفَتْ قُوَاهَا وَقُوَى أَعْمَالِهَا إِلَى سَكْرِهِ وَحَبْسِهِ وَإِيقَافِهِ. فَلَا تَصْنَعُ هَذِهِ الْفِرْقَةُ كَبِيرَ أَمْرٍ. فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَجْتَمِعَ ثُمَّ يَحْمِلَ عَلَى السَّكْرِ، فَيَكُونُ إِفْسَادُهُ وَتَخْرِيبُهُ أَعْظَمَ.
وَفِرْقَةٌ رَأَتْ هَذِهِ الْحَالَةَ. وَعَلِمَتْ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا. فَقَالَتْ: لَا خَلَاصَ مِنْ مَحْذُورِهِ إِلَّا بِقَطْعِهِ مِنْ أَصْلِ الْيَنْبُوعِ. فَرَامَتْ قَطْعَهُ مِنْ أَصْلِهِ. فَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا ذَلِكَ غَايَةَ التَّعَذُّرِ، وَأَبَتِ الطَّبِيعَةُ النَّهْرِيَّةُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَهُمْ دَائِمًا فِي قَطْعِ الْيَنْبُوعِ، وَكُلَّمَا سَدُّوهُ مِنْ مَوْضِعٍ نَبَعَ مِنْ مَوْضِعٍ، فَاشْتَغَلَ هَؤُلَاءِ بِشَأْنِ هَذَا النَّهْرِ عَنِ الزِّرَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ.
فَجَاءَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ، خَالَفَتْ رَأْيَ الْفِرْقَتَيْنِ. وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَاعَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ. فَأَخَذُوا فِي صَرْفِ ذَلِكَ النَّهْرِ عَنْ مَجْرَاهُ الْمُنْتَهِي إِلَى الْعُمْرَانِ، فَصَرَفُوهُ إِلَى مَوْضِعٍ يَنْتَفِعُونَ بِوُصُولِهِ إِلَيْهِ. وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ. فَصَرَفُوهُ إِلَى أَرْضٍ قَابِلَةٍ لِلنَّبَاتِ. وَسَقَوْهَا بِهِ. فَأَنْبَتَتْ أَنْوَاعَ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ وَالثِّمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَصْنَافِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ هُمْ أَصْوَبَ الْفِرَقِ فِي شَأْنِ هَذَا النَّهْرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute