قُلْتُ: هَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ. وَهِيَ: أَنَّ الشَّوْقَ هَلْ يَزُولُ بِاللِّقَاءِ أَمْ لَا؟
وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَزُولُ بِاللِّقَاءِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. لِأَنَّ الشَّوْقَ هُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ. فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ، صَارَ مَكَانَ الشَّوْقِ قُرَّةُ عَيْنِهِ بِهِ. وَهَذِهِ الْقُرَّةُ تُجَامِعُ الْمَحَبَّةَ وَلَا تُنَافِيهَا.
قَالَ هَؤُلَاءِ: وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْقَلْبِ مُشَاهَدَةَ الْمَحْبُوبِ، لَمْ يَطْرُقْهُ الشَّوْقُ.
وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: هَلْ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا. إِنَّمَا الشَّوْقُ إِلَى غَائِبٍ، وَهُوَ حَاضِرٌ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَزِيدُ الشَّوْقُ بِالْقُرْبِ وَالْوُصُولِ، وَلَا يَزُولُ. لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْوُصُولِ عَلَى الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ، وَبَعْدَهُ: قَدْ صَارَ عَلَى الْعِيَانِ وَالشُّهُودِ. وَلِهَذَا قِيلَ:
وَأَبْرَحُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا ... إِذَا دَنَتِ الْخِيَامُ مِنَ الْخِيَامِ.
قَالَ الْجُنَيْدُ: سَمِعْتُ السَّرِيَّ يَقُولُ: الشَّوْقُ أَجَلُّ مَقَامٍ لِلْعَارِفِ إِذَا تَحَقَّقَ فِيهِ. وَإِذَا تَحَقَّقَ فِي الشَّوْقِ لَهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَشْغَلُهُ عَمَّنْ يَشْتَاقُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا: فَأَهْلُ الْجَنَّةِ دَائِمًا فِي شَوْقٍ إِلَى اللَّهِ، مَعَ قُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُ.
قَالُوا: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الشَّوْقَ يَكُونُ حَالَ اللِّقَاءِ أَعْظَمَ: أَنَّا نَرَى الْمُحِبَّ يَبْكِي عِنْدَ لِقَاءِ مَحْبُوبِهِ. وَذَلِكَ الْبُكَاءُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شِدَّةِ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، وَوَجْدِهِ بِهِ، وَلِذَلِكَ يَجِدُ عِنْدَ لِقَائِهِ نَوْعًا مِنَ الشَّوْقِ لَمْ يَجِدْهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْهُ.
[فَصْلٌ الشَّوْقُ يُرَادُ بِهِ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَاهْتِيَاجُه لِلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ]
فَصْلٌ
النِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الشَّوْقَ يُرَادُ بِهِ: حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَاهْتِيَاجُهُ لِلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ. فَهَذَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. وَلَكِنْ يَعْقُبُهُ شَوْقٌ آخَرُ أَعْظَمُ مِنْهُ، تُثِيرُهُ حَلَاوَةُ الْوَصْلِ وَمُشَاهَدَةُ جَمَالِ الْمَحْبُوبِ. فَهَذَا يَزِيدُ بِاللِّقَاءِ وَالْقُرْبِ وَلَا يَزُولُ. وَالْعِبَارَةُ عَنْ هَذَا: وُجُودُهُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ: حُصُولُهُ.
وَبَعْضُهُمْ سَمَّى النَّوْعَ الْأَوَّلَ: شَوْقًا. وَالثَّانِيَ: اشْتِيَاقًا.