للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَشَدُّ الْخَلْقِ امْتِحَانًا بِالنَّاسِ، وَأَذَى النَّاسِ إِلَيْهِمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ فِي الْحُدُورِ. وَيَكْفِي تَدَبُّرُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مَعَ أُمَمِهِمْ وَشَأْنِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى أَعْدَائِهِ لَهُ بِمَا لَمْ يُؤْذَهُ مَنْ قَبْلَهُ. «وَقَدْ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لَتُكَذَّبَنَّ وَلَتُخْرَجَنَّ وَلَتُؤْذَيَنَّ. وَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي وَرَثَتِهِ كَمَا كَانَ فِي مُوَرِّثِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.»

أَفَلَا يَرْضَى الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِخِيَارِ خَلْقِ اللَّهِ، وَخَوَاصِّ عِبَادِهِ: الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ؟ .

وَمَنْ أَحَبَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَلْيَقِفْ عَلَى مِحَنِ الْعُلَمَاءِ، وَأَذَى الْجُهَّالِ لَهُمْ. وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كِتَابًا سَمَّاهُ مِحَنَ الْعُلَمَاءِ.

[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْحَادِيَ عَشَرَ مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ]

فَصْلٌ

الْمَشْهَدُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَجَلُّ الْمَشَاهِدِ وَأَرْفَعُهَا. فَإِذَا امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَمُعَامَلَتِهِ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَقُرَّةِ الْعَيْنِ بِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ. وَسَكَنَ إِلَيْهِ. وَاشْتَاقَ إِلَى لِقَائِهِ، وَاتَّخَذَهُ وَلِيًّا دُونَ مَنْ سِوَاهُ، بِحَيْثُ فَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَهُ كُلَّهَا. وَرَضِيَ بِهِ وَبِأَقْضِيَتِهِ. وَفَنِيَ بِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَذِكْرِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ: فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مُتَّسَعٌ لِشُهُودِ أَذَى النَّاسِ لَهُ أَلْبَتَّةَ. فَضْلًا عَنْ أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وَفِكْرُهُ وَسِرُّهُ بِتَطَلُّبِ الِانْتِقَامِ وَالْمُقَابَلَةِ. فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ وَيُعَوِّضُهُ مِنْهُ. فَهُوَ قَلْبٌ جَائِعٌ غَيْرُ شَبْعَانَ. فَإِذَا رَأَى أَيَّ طَعَامٍ رَآهُ هَفَّتْ إِلَيْهِ نَوَازِعُهُ. وَانْبَعَثَتْ إِلَيْهِ دَوَاعِيهِ. وَأَمَّا مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِأَعْلَى الْأَغْذِيَةِ وَأَشْرَفِهَا: فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا دُونَهَا. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

فَصْلٌ

وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ يَسْتَفِيدَ بِمَعْرِفَةِ أَقْدَارِ النَّاسِ، وَجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ: مَحَبَّتَهُمْ لَهُ، وَنَجَاتَهُمْ بِهِ.

فَلِأَنَّهُ إِذَا عَامَلَهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ: مِنْ إِقَامَةِ أَعْذَارِهِمْ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَتَرْكِ مُقَابَلَتِهِمُ: اسْتَوَتْ كَرَاهَتُهُمْ وَمَحَبَّتُهُمْ لَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَجَاتِهِمُ الْأُخْرَوِيَّةِ أَيْضًا. إِذْ

<<  <  ج: ص:  >  >>