للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْهِمَّةُ: مَا يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ لِلْمَقْصُودِ صِرْفًا. لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا. وَلَا يَلْتَفِتُ عَنْهَا.

قَوْلُهُ " يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ لِلْمَقْصُودِ " أَيْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ كَاسْتِيلَاءِ الْمَالِكِ عَلَى الْمَمْلُوكِ، وَصِرْفًا أَيْ خَالِصًا صِرْفًا.

وَالْمُرَادُ: أَنَّ هِمَّةَ الْعَبْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْحَقِّ تَعَالَى طَلَبًا صَادِقًا خَالِصًا مَحْضًا. فَتِلْكَ هِيَ الْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ، الَّتِي لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا أَيْ: لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُهْلَةِ. وَلَا يَتَمَالَكُ صَبْرَهُ؛ لِغَلَبَةِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ. وَشِدَّةِ إِلْزَامِهَا إِيَّاهُ بِطَلَبِ الْمَقْصُودِ، وَلَا يَلْتَفِتُ عَنْهَا إِلَى مَا سِوَى أَحْكَامِهَا. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْهِمَّةِ: سَرِيعٌ وُصُولُهُ وَظَفَرُهُ بِمَطْلُوبِهِ. مَا لَمْ تَعُقْهُ الْعَوَائِقُ، وَتَقْطَعْهُ الْعَلَائِقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْهِمَّةِ]

[الدَّرَجَةُ الْأُولَى هِمَّةٌ تَصُونُ الْقَلْبَ عَنْ وَحْشَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْفَانِي]

فَصْلٌ

قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الدَّرَجَةُ الْأُولَى: هِمَّةٌ تَصُونُ الْقَلْبَ عَنْ وَحْشَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْفَانِي، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْبَاقِي، وَتُصَفِّيهِ مِنْ كَدَرِ التَّوَانِي.

الْفَانِي الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. أَيْ يَزْهَدُ الْقَلْبُ فِيهَا وَفِي أَهْلِهَا. وَسَمَّى الرَّغْبَةَ فِيهَا وَحْشَةً لِأَنَّهَا وَأَهْلَهَا تُوحِشُ قُلُوبَ الرَّاغِبِينَ فِيهَا، وَقُلُوبَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا.

أَمَّا الرَّاغِبُونَ فِيهَا: فَأَرْوَاحُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ أَجْسَامِهِمْ. إِذْ فَاتَهَا مَا خُلِقَتْ لَهُ. فَهِيَ فِي وَحْشَةٍ لِفَوَاتِهِ.

وَأَمَّا الزَّاهِدُونَ فِيهَا: فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَهَا مُوحِشَةً لَهُمْ. لِأَنَّهَا تَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِمْ وَمَحْبُوبِهِمْ. وَلَا شَيْءَ أَوْحَشُ عِنْدَ الْقَلْبِ مِمَّا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ. وَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ نَازَعَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ، وَطَلَبَهَا مِنْهُمْ أَوْحَشَ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ وَأَبْغَضَهُ.

وَأَيْضًا: فَالزَّاهِدُونَ فِيهَا: إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا بِالْبَصَائِرِ. وَالرَّاغِبُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا بِالْأَبْصَارِ فَيَسْتَوْحِشُ الزَّاهِدُ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ الرَّاغِبُ. كَمَا قِيلَ:

وَإِذَا أَفَاقَ الْقَلْبُ وَانْدَمَلَ الْهَوَى ... رَأَتِ الْقُلُوبُ وَلَمْ تَرَ الْأَبْصَارُ

وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْهِمَّةُ تَحْمِلُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْبَاقِي لِذَاتِهِ. وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ. وَالْبَاقِي بِإِبْقَائِهِ: هُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>