وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْخَلْقِ: أَنْ لَا يُفَرِّطَ فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ، وَلَا يَسْتَغْرِقَ فِيهَا، بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ بِهَا عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ تَكْمِيلِهَا، أَوْ عَنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِ وَقَلْبِهِ، وَأَنْ لَا يَجْفُوَ عَنْهَا حَتَّى يُعَطِّلَهَا بِالْكُلِّيَّةِ. فَإِنَّ الطَّرَفَيْنِ مِنَ الْعُدْوَانِ الضَّارِّ. وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ، فَحَقِيقَةُ الْأَدَبِ: هِيَ الْعَدْلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْأَدَبِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى مَنْعُ الْخَوْفِ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مَنْعُ الْخَوْفِ: أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْيَأْسِ، وَحَبْسُ الرَّجَاءِ: أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَمْنِ، وَضَبْطُ السُّرُورِ: أَنْ يُضَاهِئَ الْجُرْأَةَ.
يُرِيدُ: أَنَّهُ لَا يَدْعُ الْخَوْفَ يُفْضِي بِهِ إِلَى حَدٍّ يُوقِعُهُ فِي الْقُنُوطِ، وَالْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. فَإِنَّ هَذَا الْخَوْفَ مَذْمُومٌ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: حَدُّ الْخَوْفِ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ. فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ: فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ.
وَهَذَا الْخَوْفُ الْمُوقِعُ فِي الْإِيَاسِ: إِسَاءَةُ أَدَبٍ عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَجَهْلٌ بِهَا.
وَأَمَّا حَبْسُ الرَّجَاءِ: أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَمْنِ
فَهُوَ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ الرَّجَاءُ إِلَى حَدٍّ يَأْمَنُ مَعَهُ الْعُقُوبَةَ. فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ. وَهَذَا إِغْرَاقٌ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ.
بَلْ حَدُّ الرَّجَاءِ: مَا طَيَّبَ لَكَ الْعِبَادَةَ، وَحَمَلَكَ عَلَى السَّيْرِ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيَاحِ الَّتِي تُسَيِّرُ السَّفِينَةَ. فَإِذَا انْقَطَعَتْ وَقَفَتِ السَّفِينَةُ. وَإِذَا زَادَتْ أَلْقَتْهَا إِلَى الْمَهَالِكِ. وَإِذَا كَانَتْ بِقَدْرٍ: أَوْصَلَتْهَا إِلَى الْبُغْيَةِ.
وَأَمَّا ضَبْطُ السُّرُورِ: أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مُشَابَهَةِ الْجُرْأَةِ.
فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْأَقْوِيَاءُ أَرْبَابُ الْعَزَائِمِ. الَّذِينَ لَا تَسْتَفِزُّهُمُ السَّرَّاءُ، فَتَغْلِبَ شُكْرَهُمْ. وَلَا تُضْعِفُهُمُ الضَّرَّاءُ. فَتَغْلِبَ صَبْرَهُمْ، كَمَا قِيلَ:
لَا تَغَلِبُ السَّرَّاءُ مِنْهُمْ شُكْرَهُمْ ... كَلَّا. وَلَا الضَّرَاءُ صَبْرَ الصَّابِرِ
وَالنَّفْسُ قَرِينَةُ الشَّيْطَانِ وَمُصَاحِبَتُهُ، وَتُشْبِهُهُ فِي صِفَاتِهِ. وَمَوَاهِبُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَنْزِلُ