يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَيَكُونُ مُكْثُهُ فِيهَا بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ مُقْتَضَى الْمُكْثِ فِي سُرْعَةِ الْخُرُوجِ وَبُطْئِهِ.
وَمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ مُنَوَّرَةٌ يَرَى بِهَا كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَتَفَاصِيلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ رَأْيَ عَيْنٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى إِلَهِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَنِسْبَةُ خِلَافِ ذَلِكَ إِلَيْهِ نِسْبَةُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى بَصِيرَتِهِ كَنِسْبَةِ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ إِلَى بَصَرِهِ، وَهَذَا يَقِينُ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْرِقُ السَّيِّئَاتِ كَمَا تَحْرِقُ النَّارُ الْحَطَبَ.
وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْإِيمَانِ يَسْتَحِيلُ إِصْرَارُهُ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْهُ وَكَثُرَتْ، فَإِنَّ مَا مَعَهُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ يَأْمُرُهُ بِتَجْدِيدِ التَّوْبَةِ كُلَّ وَقْتٍ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ وَهَذَا مِنْ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ.
فَهَذِهِ مَجَامِعُ طُرُقِ النَّاسِ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ.
[فَصْلٌ تَابَ الْقَاتِلُ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقُتِلَ قِصَاصًا هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمَقْتُولِ حَقٌّ]
فَصْلٌ
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَابَ الْقَاتِلُ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقُتِلَ قِصَاصًا، هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمَقْتُولِ حَقٌّ؟ .
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَدُّهُ، وَالْحُدُودُ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا، وَقَدِ اسْتَوْفَى وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ حَقَّ مَوْرُوثِهِمْ، وَهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الرَّجُلِ حَقَّهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ وَوَكِيلِهِ.
يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ أَحَدُ الْجِنَايَتَيْنِ، فَإِذَا اسْتُوْفِيَتْ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى طَرَفِهِ فَاسْتَقَادَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَقْتُولُ قَدْ ظُلِمَ وَفَاتَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَلَمْ يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَهُ، وَالْوَارِثُ إِنَّمَا أَدْرَكَ ثَأْرَ نَفْسِهِ وَشِفَاءَ غَيْظِهِ، وَأَيُّ مَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لِلْمَقْتُولِ بِذَلِكَ؟ وَأَيُّ ظُلَامَةٍ اسْتَوْفَاهَا مِنَ الْقَاتِلِ؟ .
قَالُوا: فَالْحُقُوقُ فِي الْقَتْلِ ثَلَاثَةٌ: حَقٌّ لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِلْمَقْتُولِ، وَحَقٌّ لِلْوَارِثِ، فَحَقُّ اللَّهِ لَا يَزُولُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَحَقُّ الْوَارِثِ قَدِ اسْتَوْفَاهُ بِالْقَتْلِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بَيْنَ الْقِصَاصِ، وَالْعَفْوِ مَجَّانًا، أَوْ إِلَى مَالٍ، فَلَوْ أَحَلَّهُ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمَقْتُولِ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ; لِأَنَّهُ أَحَدُ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُولِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا دُونَ الْآخَرَيْنِ؟ .