[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ إِلَى السَّبْقِ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقَامَةِ]
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ إِلَى السَّبْقِ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي قَصْدِ الْوُصُولِ، وَالنَّظَرِ إِلَى أَوَائِلِ الْجَمْعِ.
لَمَّا جَعَلَ الدَّرَجَةَ الْأُولَى انْقِطَاعًا عَنِ الْخَلْقِ، وَالثَّانِيَةُ انْقِطَاعًا عَنِ النَّفْسِ، جَعَلَ الثَّالِثَةَ طَلَبًا لِلسَّبْقِ. وَجَعَلَهُ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقَامَةِ. وَهِيَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ. وَلُزُومُ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمَحَابِّهِ. ثُمَّ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي قَصْدِ الْوُصُولِ.
وَهُوَ أَنْ يَشْغَلَهُ طَلَبُ الْوُصُولِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ هُمُومَهُ وَعَزَائِمَهُ وَإِرَادَتَهُ وَأَوْقَاتَهُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ بُدُوِّ بَرْقِ الْكَشْفِ الْمَذْكُورِ لَهُ.
وَأَمَّا النَّظَرُ إِلَى أَوَائِلِ الْجَمْعِ فَالْجَمْعُ هُوَ قِيَامُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِالْحَقِّ وَحْدَهُ. وَقِيَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَالنَّظَرُ إِلَى أَوَائِلِ ذَلِكَ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَبِدَايَاتِهِ. وَهِيَ الْعَقَبَةُ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا عَلَى وَادِي الْفَنَاءِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا وَقْفَةٌ تَعْتَرِضُ الْقَاطِعَ لِأَوْدِيَةِ التَّفْرِقَةِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْجَمْعِ. وَمِنْهَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ الْوَقْفَةُ تَعْتَرِضُ كُلَّ طَالِبِ مَجْدٍ فِي طَلَبِهِ. فَمِنْهَا يَرْجِعُ عَلَى عَقِبِهِ، أَوْ يَصِلُ إِلَى مَطْلَبِهِ كَمَا قِيلَ:
لَابُدَّ لِلْعَاشِقِ مِنْ وَقْفَةٍ
مَا بَيْنَ سُلْوَانٍ وَبَيْنَ غَرَامِ ... وَعِنْدَهَا يَنْقِلُ أَقْدَامَهُ إِمَّا إِلَى خَلْفٍ وَإِمَّا أَمَامِ
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ أَوَائِلَ الْجَمْعِ مَبَادِئُهُ وَلَوَائِحُهُ وَبَوَارِقُهُ.
وَبَعْدَ هَذَا دَرَجَةٌ رَابِعَةٌ. وَهِيَ الِانْقِطَاعُ عَنْ مُرَادِهِ مِنْ رَبِّهِ. وَالْفَنَاءُ عَنْهُ إِلَى مُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ، وَالْفَنَاءِ بِهِ. فَلَا يُرِيدُ مِنْهُ، بَلْ يُرِيدُ مَا يُرِيدُهُ، مُنْقَطِعًا بِهِ عَنْ كُلِّ إِرَادَةٍ. فَيَنْظُرُ فِي أَوَائِلِ الْجَمْعِ فِي مُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.
وَأَكْثَرُ أَرْبَابِ السُّلُوكِ عِنْدَهُمْ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: ٥] فَرْقٌ، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] جَمْعٌ.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ تَرْكَ الْجَمْعِ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ. فَهُوَ يُعْرِضُ عَنِ الْجَمْعِ إِلَى الْفَرْقِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مَقَامَ التَّفْرِقَةِ نَاقِصٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. وَيَرَى سُوءَ حَالِ أَهْلِهِ