للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ إِلَّا بِمَلَكَةٍ قَوِيَّةٍ مِنَ الذِّكْرِ، وَجَمْعِ الْقَلْبِ فِيهِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مُرَاقَبَةُ الْأَزَلِ]

فَصْلٌ

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُرَاقَبَةِ: مُرَاقَبَةُ الْأَزَلِ، بِمُطَالَعَةِ عَيْنِ السَّبْقِ، اسْتِقْبَالًا لِعِلْمِ التَّوْحِيدِ. وَمُرَاقَبَةُ ظُهُورِ إِشَارَاتِ الْأَزَلِ عَلَى أَحَايِينِ الْأَبَدِ، وَمُرَاقِبَةُ الْإِخْلَاصِ مِنْ وَرْطَةِ الْمُرَاقِبَةِ.

قَوْلُهُ: مُرَاقَبَةُ الْأَزَلِ؛ أَيْ شُهُودُ مَعْنَى الْأَزَلِ، وَهُوَ الْقِدَمُ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ بِمُطَالَعَةِ عَيْنِ السَّبْقِ؛ أَيْ بِشُهُودِ سَبْقِ الْحَقِّ تَعَالَى لِكُلِّ مَا سِوَاهُ؛ إِذْ هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ. فَمَتَى طَالَعَ الْعَبْدُ عَيْنَ هَذَا السَّبْقِ شَهِدَ مَعْنَى الْأَزَلِ وَعَرَفَ حَقِيقَتَهُ، فَبَدَا لَهُ حِينَئِذٍ عِلْمُ التَّوْحِيدِ، فَاسْتَقْبَلَهُ كَمَا يَسْتَقْبِلُ أَعْلَامَ الْبَلَدِ، وَأَعْلَامَ الْجَيْشِ. وَرُفِعَ لَهُ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ. وَهُوَ شُهُودُ انْفِرَادِ الْحَقِّ بِأَزَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ. وَأَنَّهُ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ أَلْبَتَّةَ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَكَائِنٌ بَعْدَ عَدَمِهِ بِتَكْوِينِهِ. فَإِذَا عَدِمَتِ الْكَائِنَاتُ مِنْ شُهُودِهِ، كَمَا كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي الْأَزَلِ. فَطَالَعَ عَيْنَ السَّبْقِ، وَفَنِيَ بِشُهُودِ مَنْ لَمْ يَزَلْ عَنْ شُهُودِ مَنْ لَمْ يَكُنْ. فَقَدِ اسْتَقْبَلَ عِلْمَ التَّوْحِيدِ.

وَأَمَّا مُرَاقَبَةُ ظُهُورِ إِشَارَاتِ الْأَزَلِ عَلَى أَحَايِينِ الْأَبَدِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَظْهَرُ فِي الْأَبَدِ هُوَ عَيْنُ مَا كَانَ مَعْلُومًا فِي الْأَزَلِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا تَجَدَّدَتْ أَحَايِينُهُ، وَهِيَ أَوْقَاتُ ظُهُورِهِ. فَقَدْ ظَهَرَتْ إِشَارَاتُ الْأَزَلِ، وَهِيَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْعَقْلُ بِالْأَزَلِيَّةِ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى أَحَايِينِ الْأَبَدِ. هَذَا مَعْنَاهُ الصَّحِيحُ عِنْدِي.

وَالْقَوْمُ يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ اتِّصَالُ الْأَبَدِ بِالْأَزَلِ فِي الشُّهُودِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْوِيَ بِسَاطَ الْكَائِنَاتِ عَنْ شُهُودِهِ طَيًّا كُلِّيًّا، وَيَشْهَدَ اسْتِمْرَارَ وُجُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَيَصِلُ - بِهَذَا الشُّهُودِ - الْأَزَلَ بِالْأَبَدِ، وَيَصِيرَانِ شَيْئًا وَاحِدًا. وَهُوَ دَوَامُ وَجُودِهِ سُبْحَانَهُ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كُلِّ حَادِثٍ.

وَالشُّهُودُ الْأَوَّلُ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ. وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَتَقَدَّمَ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ، وَوُقُوعِهَا فِي الْأَبَدِ مُطَابِقَةً لِعِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ، فَهَذَا الشُّهُودُ يُعْطِي إِيمَانًا وَمَعْرِفَةً، وَإِثْبَاتًا لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْفِعْلِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>