[فَصْلٌ الْمَعْنَى الثَّالِثِ: الْوَقْتُ الْحَقُّ]
قَالَ: وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ، قَالُوا: الْوَقْتُ الْحَقُّ. أَرَادُوا بِهِ: اسْتِغْرَاقَ رَسْمِ الْوَقْتِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْبِقُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ عِنْدِي. لَكِنَّهُ هُوَ اسْمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ، لِحِينِ تَتَلَاشَى فِيهِ الرُّسُومُ كَشْفًا. لَا وُجُودًا مَحْضًا. وَهُوَ فَوْقُ الْبَرْقِ وَالْوَجْدِ. وَهُوَ يُشَارِفُ مَقَامَ الْجَمْعِ، لَوْ دَامَ وَبَقِيَ. وَلَا يَبْلُغُ وَادِيَ الْوُجُودِ، لَكِنَّهُ يَكْفِي مَؤُنَةَ الْمُعَامَلَةِ، وَيُصَفِّي عَيْنَ الْمُسَامَرَةِ. وَيَشُمُّ رَوَائِحَ الْوُجُودِ.
هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ. وَأَصْعَبُ تَصَوُّرًا وَحُصُولًا. فَإِنَّ الْأَوَّلَ: وَقْتُ سُلُوكٍ يَتَلَوَّنُ. وَهَذَا وَقْتُ كَشْفٍ يَتَمَكَّنُ. وَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَ الْحَقِّ لِغَلَبَةِ حُكْمِهِ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهِ. فَلَا يُحِسُّ بِرَسْمِ الْوَقْتِ، بَلْ يَتَلَاشَى ذِكْرُ وَقْتِهِ مِنْ قَلْبِهِ، لِمَا قَهَرَهُ مِنْ نُورِ الْكَشْفِ.
فَقَوْلُهُ: قَالُوا: الْوَقْتُ هُوَ الْحَقُّ.
يَعْنِي: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَطْلَقَ اسْمَ الْحَقِّ عَلَى الْوَقْتِ، ثُمَّ فَسَّرَ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ. وَأَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ اسْتِغْرَاقَ رَسْمِ الْوَقْتِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ السَّالِكَ بِهَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ لِلْحَقِّ: إِذَا اشْتَدَّ اسْتِغْرَاقُهُ فِي وَقْتٍ يَتَلَاشَى عَنْهُ وَقْتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَتَقْرِيبُ هَذَا إِلَى الْفَهْمِ: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ اسْتِغْرَاقَ وَقْتِهِ الْحَاضِرِ فِي مَاهِيَّةِ الزَّمَانِ. فَقَدِ اسْتَغْرَقَ الزَّمَانُ رَسْمَ الْوَقْتِ إِلَى مَا هُوَ جُزْءٌ يَسِيرٌ جِدًّا مِنْ أَجْزَائِهِ، وَانْغَمَرَ فِيهِ. كَمَا تَنْغَمِرُ الْقَطْرَةُ فِي الْبَحْرِ. ثُمَّ إِنَّ الزَّمَانَ - الْمَحْدُودَ الطَّرَفَيْنِ - يَسْتَغْرِقُ رَسْمُهُ فِي وُجُودِ الدَّهْرِ. وَهُوَ مَا بَيْنَ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ. ثُمَّ إِنَّ الدَّهْرَ يَسْتَغْرِقُ رَسْمَهُ فِي دَوَامِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَذَلِكَ الدَّوَامُ: هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ. فَهُنَاكَ يَضْمَحِلُّ الدَّهْرُ وَالزَّمَانُ وَالْوَقْتُ. وَلَا يَبْقَى لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى دَوَامِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ أَلْبَتَّةَ. فَاضْمَحَلَّ الزَّمَانُ وَالدَّهْرُ وَالْوَقْتُ فِي الدَّوَامِ الْإِلَهِيِّ، كَمَا تَضْمَحِلُّ الْأَنْوَارُ الْمَخْلُوقَةُ فِي نُورِهِ، وَكَمَا يَضْمَحِلُّ عِلْمُ الْخَلْقِ فِي عِلْمِهِ، وَقُدْرَتُهُمْ فِي قُدْرَتِهِ، وَجَمَالُهُمْ فِي جَمَالِهِ، وَكَلَامُهُمْ فِي كَلَامِهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمَخْلُوقِ نِسْبَةٌ مَا إِلَى صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ.
وَالْقَوْمُ إِذَا أَطْلَقَ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُمْ " مَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ " أَوْ " مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ " أَوْ " هُنَاكَ: يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ. وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، فَهَذَا مُرَادُهُمْ. لَا سِيَّمَا إِذَا حَصَلَ هَذَا الِاسْتِغْرَاقُ فِي الشُّهُودِ كَمَا هُوَ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute