للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُ " وَتَنْمُو عَلَى الْإِجَابَةِ بِالْفَاقَةِ " الْإِجَابَةُ بِالْفَاقَةِ: أَنْ يُجِيبَ الدَّاعِي بِمَوْفُورِ الْأَعْمَالِ. وَهُوَ خَالٍ مِنْهَا. كَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهَا، بَلْ يُجِيبُ دَعْوَتَهُ بِمُجَرَّدِ الْإِفْلَاسِ وَالْفَقْرِ التَّامِّ. فَإِنَّ طَرِيقَةُ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ: تَأْبَى أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِهَا عَمَلٌ، أَوْ حَالٌ أَوْ مَقَامٌ. وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى رَبِّهِ بِالْإِفْلَاسِ الْمَحْضِ، وَالْفَاقَةِ الْمُجَرَّدَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَنْمُو عَلَى هَذَا الْمَشْهَدِ، وَهَذِهِ الْإِجَابَةِ. وَمَا أَعَزَّهُ مِنْ مَقَامٍ. وَأَعْلَاهُ مِنْ مَشْهَدٍ. وَمَا أَنْفَعَهُ لِلْعَبْدِ! وَمَا أَجْلَبَهُ لِلْمَحَبَّةِ! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مَحَبَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ]

فَصْلٌ

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مَحَبَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ، وَتُلْهِجُ اللِّسَانَ بِذِكْرِهِ. وَتُعَلِّقَ الْقَلْبَ بِشُهُودِهِ. وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَظْهَرُ مِنْ مُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْآيَاتِ، وَالِارْتِيَاضِ بِالْمَقَامَاتِ.

هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا، بِاعْتِبَارِ سَبَبِهَا وَغَايَتِهَا. فَإِنَّ سَبَبَ الْأُولَى: مُطَالَعَةُ الْإِحْسَانِ وَالْمِنَّةِ. وَسَبَبُ هَذِهِ: مُطَالَعَةُ الصِّفَاتِ. وَشُهُودُ مَعَانِي آيَاتِهِ الْمَسْمُوعَةِ، وَالنَّظَرِ إِلَى آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ. وَحُصُولُ الْمَلَكَةِ فِي مَقَامَاتِ السُّلُوكِ، وَهُوَ الِارْتِيَاضُ بِالْمَقَامَاتِ. وَلِذَلِكَ كَانَتْ غَايَتُهَا أَعْلَى مِنْ غَايَةِ مَا قَبْلَهَا.

فَقَوْلُهُ " تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ " أَيْ لِكَمَالِهَا وَقُوَّتِهَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي مِنَ الْمُحِبِّ أَنْ يَتْرُكَ لِأَجْلِ الْحَقِّ مَا سِوَاهُ، فَيُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَا يُؤْثِرُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ. وَيَجْعَلُ اللِّسَانَ لَهِجًا بِذِكْرِهِ. فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ.

" وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِشُهُودِهِ " لِفَرْطِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْقَلْبِ. وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُ غَيْرَهُ.

وَقَوْلُهُ " وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَظْهَرُ مِنْ مُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ " يَعْنِي: إِثْبَاتَهَا أَوَّلًا. وَمَعْرِفَتَهَا ثَانِيًا. وَنَفْيَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ عَنْ نُصُوصِهَا ثَالِثًا، وَنَفْيَ التَّمْثِيلِ وَالتَّكْيِيفِ عَنْ مَعَانِيهَا رَابِعًا. فَلَا يَصِحُّ لَهُ مُطَالَعَةُ الصِّفَاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْمَحَبَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ. وَكُلَّمَا أَكْثَرَ قَلْبُهُ مِنْ مُطَالَعَتِهَا، وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا: ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا. وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْجَهْمِيَّةُ - قُطَّاعُ طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ - بَيْنَ الْمُحِبِّينَ وَبَيْنَهُمُ السَّيْفُ الْأَحْمَرُ.

وَقَوْلُهُ " وَالنَّظَرُ إِلَى الْآيَاتِ " أَيْ نَظَرُ الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ إِلَى آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ.

وَفِي آيَاتِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>