عُمْرَةٍ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ أُولُو التَّوَكُّلِ حَقًّا.
وَأَكْمَلُ الْمُتَوَكِّلِينَ بَعْدَهُمْ هُوَ مَنِ اشْتَمَّ رَائِحَةَ تَوَكُّلِهِمْ مِنْ مَسِيرَةٍ بَعِيدَةٍ، أَوْ لَحِقَ أَثَرًا مِنْ غُبَارِهِمْ. فَحَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالُ أَصْحَابِهِ مَحَكُّ الْأَحْوَالِ وَمِيزَانُهَا. بِهَا يُعْلَمُ صَحِيحُهَا مِنْ سَقِيمِهَا. فَإِنَّ هِمَمَهُمْ كَانَتْ فِي التَّوَكُّلِ أَعْلَى مِنْ هِمَمِ مَنْ بَعْدَهُمْ. فَإِنَّ تَوَكُّلَهُمْ كَانَ فِي فَتْحِ بَصَائِرِ الْقُلُوبِ. وَأَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَأَنْ يُوَحِّدَهُ جَمِيعُ الْعِبَادِ، وَأَنْ تُشْرِقَ شُمُوسُ الدِّينِ الْحَقِّ عَلَى قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَمَلَئُوا بِذَلِكَ التَّوَكُّلِ الْقُلُوبَ هُدًى وَإِيمَانًا. وَفَتَحُوا بِلَادَ الْكُفْرِ وَجَعَلُوهَا دَارَ إِيمَانٍ. وَهَبَّتْ رِيَاحُ رَوْحِ نَسَمَاتِ التَّوَكُّلِ عَلَى قُلُوبِ أَتْبَاعِهِمْ فَمَلَأَتْهَا يَقِينًا وَإِيمَانًا. فَكَانَتْ هِمَمُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ أَحَدُهُمْ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَى اللَّهِ فِي شَيْءٍ يَحْصُلُ بِأَدْنَى حِيلَةٍ وَسَعْيٍ، فَيَجْعَلُهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ قُوَى تَوَكُّلِهِ.
قَوْلُهُ: وَقَمْعًا لِشَرَفِ النَّفْسِ. يُرِيدُ أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ قَدْ يَكُونُ مُتَسَبِّبًا بِالْوِلَايَاتِ الشَّرِيفَةِ فِي الْعِبَادَةِ، أَوِ التِّجَارَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَالْأَسْبَابِ الَّتِي لَهُ بِهَا جَاهٌ وَشَرَفٌ فِي النَّاسِ. فَإِذَا تَرَكَهَا يَكُونُ تَرْكُهَا قَمْعًا لِشَرَفِ نَفْسِهِ، وَإِيثَارًا لِلتَّوَاضُعِ.
وَقَوْلُهُ: وَتَفَرُّغًا لِحِفْظِ الْوَاجِبَاتِ؛ أَيْ يَتَفَرَّغُ بِتَرْكِهَا لِحِفْظِ وَاجِبَاتِهَا الَّتِي تُزَاحِمُهَا تِلْكَ الْأَسْبَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ التَّوَكُّلُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّوَكُّلِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّوَكُّلُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّوَكُّلِ، النَّازِعَةِ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ. وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَةَ الْحَقِّ تَعَالَى لِلْأَشْيَاءِ هِيَ مِلْكَةُ عَزَّةٍ. لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ. فَيَكِلُ شَرِكَتَهُ إِلَيْهِ. فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْعُبُودِيَّةِ: أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ وَحْدَهُ.
يُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَتَى قَطَعَ الْأَسْبَابَ وَالطَّلَبَ، وَتَعَدَّى تَيْنِكَ الدَّرَجَتَيْنِ، فَتَوَكُّلُهُ فَوْقَ تَوَكُّلِ مَنْ قَبْلَهُ. وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ دُونَ مَقَامِهِ، فَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِهِ وَبِحَقِيقَتِهِ نَازِعَةً - أَيْ بَاعِثَةً وَدَاعِيَةً - إِلَى تَخَلُّصِهِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ، أَيْ لَا يَعْرِفُ عِلَّةَ التَّوَكُّلِ حَتَّى يَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ. فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُ التَّوَكُّلَ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْ عِلَّتِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي يَعْلَمُ بِهَا عِلَّةَ التَّوَكُّلِ. فَقَالَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَةَ الْحَقِّ لِلْأَشْيَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute