وَأَمَّا رَبْطُهُ بِرُوحِ الْأُنْسِ: فَهُوَ تَعَلُّقُ قَلْبِهِ بِرُوحِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ، تَعَلُّقًا لَازِمًا لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ يَجْعَلُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْأُنْسِ رَابِطَةً لَازِمَةٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُكَرِّهُ إِلَيْهِ مُلَابَسَةَ الْخَلْقِ. بَلْ يَجِدُ الْوَحْشَةَ فِي مُلَابَسَتِهِمْ بِقَدْرِ أُنْسِهِ بِرَبِّهِ، وَقُرَّةِ عَيْنِهِ بِحُبِّهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ. فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ. فَإِنْ لَابَسَهُمْ لَابَسَهُمْ بِرَسْمِهِ دُونَ سِرِّهِ وَرُوحِهِ وَقَلْبِهِ. فَقَلْبُهُ وَرُوحُهُ فِي مَلَأٍ، وَبَدَنُهُ وَرَسْمُهُ فِي مَلَأٍ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ شُهُودِ الْحَضْرَةِ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ شُهُودِ الْحَضْرَةِ. وَهِيَ الَّتِي لَا تَشُوبُهَا هَيْبَةٌ. وَلَا تُقَارِنُهَا تَفْرِقَةٌ. وَلَا يُوقَفُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ.
شُهُودُ الْحَضْرَةِ: انْجِذَابُ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَعُكُوفُهُ عَلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ، فَهُوَ فِي حَضْرَةِ قُرْبِهِ مُشَاهِدًا لَهَا. وَإِذَا وَصَلَ الْقَلْبُ إِلَيْهَا غَشِيَتْهُ الْهَيْبَةُ وَزَالَتْ عَنْهُ التَّفْرِقَةُ. إِذْ مَا مَعَ اللَّهِ سِوَاهُ. فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ سِوَى اللَّهِ وَحْدَهُ. وَهَذَا مَقَامُ الْجَمْعِيَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يُوقَفُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ.
فَيَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَظَفِرَ بِهِ: وَصَلَ إِلَى الْغَايَةِ، إِلَّا صَاحِبَ هَذَا الْمَشْهَدِ. فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ بِحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى غَايَةٍ. فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ. بَلْ إِذَا شَهِدَ تِلْكَ الرَّوَابِيَ. وَوَقَفَ عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ، وَعَايَنَ الْحَضْرَةَ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْغَايَاتِ، شَارَفَ أَمْرًا لَا غَايَةَ لَهُ وَلَا نِهَايَةَ. وَالْغَايَاتُ وَالنِّهَايَاتُ كُلُّهَا إِلَيْهِ تَنْتَهِي {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: ٤٢] فَانْتَهَتْ إِلَيْهِ الْغَايَاتُ وَالنِّهَايَاتُ. وَلَيْسَ لَهُ سُبْحَانَهُ غَايَةٌ وَلَا نِهَايَةٌ. لَا فِي وُجُودِهِ، وَلَا فِي مَزِيدِ جُودِهِ. إِذْ هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ. وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ. وَلَا نِهَايَةَ لِحَمْدِهِ وَعَطَائِهِ. بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ الْعَبْدُ شُكْرًا زَادَهُ فَضْلًا. وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ طَاعَةً زَادَهُ لِمَجْدِهِ مَثُوبَةً. وَكُلَّمَا ازْدَادَ مِنْهُ قُرْبًا لَاحَ لَهُ مِنْ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ مَا لَمْ يُشَاهِدْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا أَبَدًا لَا يَقِفُ عَلَى غَايَةٍ وَلَا نِهَايَةٍ. وَلِهَذَا جَاءَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي مَزِيدٍ دَائِمٍ بِلَا انْتِهَاءٍ فَإِنَّ نَعِيمَهُمْ مُتَّصِلٌ مِمَّنْ لَا نِهَايَةَ لِفَضْلِهِ وَلَا لِعَطَائِهِ، وَلَا لِمَزِيدِهِ وَلَا لِأَوْصَافِهِ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: ٥٤] . «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute