للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الْأُنْسُ بِنُورِ الْكَشْفِ]

فَصْلٌ

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْأُنْسُ بِنُورِ الْكَشْفِ. وَهُوَ أَنَسٌ شَاخِصٌ عَنِ الْأُنْسِ الْأَوَّلِ. تَشُوبُهُ صَوْلَةُ الْهَيْمَانِ. وَيَضْرِبُهُ مَوْجُ الْفَنَاءِ. وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ قَوْمًا عَلَى عُقُولِهِمْ وَسَلَبَ قَوْمًا طَاقَةَ الِاصْطِبَارِ. وَحَلَّ عَنْهُمْ قُيُودَ الْعِلْمِ. وَفِي هَذَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «أَسْأَلُكُ شَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ. وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» .

يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِنُورِ الْكَشْفِ. بَاءَ السَّبَبِيَّةِ، أَوْ بَاءَ الْإِلْصَاقِ.

فَإِنْ كَانَتْ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ: كَانَ الْمَعْنَى: الْأُنْسَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ نُورِ الْكَشْفِ.

وَإِنْ كَانَتْ بَاءَ الْإِلْصَاقِ، كَانَ الْمَعْنَى: الْأُنْسَ الْمُتَلَبِّسَ بِنُورِ الْكَشْفِ.

فَإِنْ قُلْتُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأُنْسِ، وَنُورِ الْكَشْفِ، حَتَّى يَكُونَ أَحَدُهُمَا سَبَبًا لِلْآخَرِ، أَوْ مُتَلَبِّسًا بِهِ؟ .

قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ نُورَ الْكَشْفِ مِنْ بَابِ الْمَعَارِفِ وَانْكِشَافِ الْحَقِيقَةِ لِلْقَلْبِ. وَأَمَّا الْأُنْسُ: فَمِنْ بَابِ الْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ، وَالسُّكُونِ إِلَى مَنْ يَأْنَسُ بِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ. فَضِدَّهُ: الْوَحْشَةُ. وَضِدَّ نُورِ الْكَشْفِ: ظُلْمَةُ الْحِجَابِ.

وَقَوْلُهُ: شَاخِصٌ عَنِ الْأُنْسِ الْأَوَّلِ.

أَيْ مُرْتَفِعٌ عَنْهُ وَأَعْلَى مِنْهُ.

قَوْلُهُ: تَشُوبُهُ صَوْلَةُ الْهَيَمَانِ.

وَذَلِكَ: لِأَنَّ هَذَا الْأُنْسَ الْمَذْكُورَ يَكُونُ مَبْدَؤُهُ الْكَشْفَ عَنْ أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَحْصُلُ عَنْهَا الْأُنْسُ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَا. كَاسْمِ الْجَمِيلِ، وَالْبَرِّ، وَاللَّطِيفِ، وَالْوَدُودِ، وَالْحَلِيمِ، وَالرَّحِيمِ وَنَحْوِهَا. ثُمَّ يَقْوَى التَّعَلُّقُ بِهَا إِلَى أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْعَقْلَ، فَيُمَازِجَهُ نَوْعٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ. فَيَقْهَرَ الْعَقْلَ بِصَوْلَتِهِ.

وَالْهَيَمَانُ هُوَ الْحَرَكَةُ إِلَى كُلِّ جِهَةٍ بِسَبَبِ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ نَوْعِ عَدَمِ تَمْيِيزٍ. وَقُوَّةِ إِرَادَةٍ قَاهِرَةٍ، لَا يَمْلِكُ صَاحِبُهَا ضَبْطَهَا.

وَقَوْلُهُ: وَيَضْرِبُهُ مَوْجُ الْفَنَاءِ.

أَيْ إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأُنْسِ: يُطَالِعُ مَبَادِئَ الْفَنَاءِ مُحِيطَةً بِهِ. فَهِيَ تُقَلِّبُهُ كَمَا يَقْلِبُ

<<  <  ج: ص:  >  >>