للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَوْجُ الْغَرِيقَ. وَهَذَا قَبْلَ اسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْفَنَاءِ عَلَى وُجُودِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ قَوْمًا عَلَى عُقُولِهِمْ

أَيْ سَلَبَهُمْ إِيَّاهَا. لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا شَيْئًا فَوْقَ مَدَارِكِ الْعُقُولِ. وَفَوْقَ كُلَّ مُدْرَكٍ بِالْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَلَا إِلْفَ لَهُمْ بِهِ. فَأَوْجَبَتْ قُوَّةُ الْمُشَاهَدَةِ وَالْوَارِدِ، وَضَعْفُ الْمَحَلِّ وَالْحَامِلِ: غَلَبَتَهُ عَلَى الْعَقْلِ. وَالْكَامِلُ مِنَ الْقَوْمِ يَثْبُتُ لِذَلِكَ وَلَا يَتَحَرَّكُ. بَلْ يَبْقَى كَأَنَّهُ جَبَلٌ.

وَتَلَا الْجُنَيْدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ - وَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَمَا يُغَيِّرُكَ مَا تَسْمَعُ؟ فَتَلَا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: ٨٨] .

وَبَعْضُهُمْ تَلَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: ١٨] .

وَقَوْمٌ أَقْوَى تَمْكِينًا مِنْ هَؤُلَاءِ: لَمْ يَغْلِبْهُمْ عَلَى عُقُولِهِمْ بَلْ سَلْبَهُمْ طَاقَةُ صَبْرِهِمْ. فَبَدَا مِنْهُمْ مَا يُنَافِي الصَّبْرَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحَلَّ عَنْهُمْ قُيُودَ الْعِلْمِ.

فَكَلَامٌ لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ. وَتُكَلُّفِ وَجْهٍ يُصَحِّحُهُ.

وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْعِلْمَ يُقَيِّدُ صَاحِبَهُ. وَالْمَعْرِفَةَ تُطْلِقُهُ. وَتُوَسِّعُ بِطَانَهُ وَتُرِيهِ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ. فَتَزُولُ عَنْهُ التَّقَيُّدَاتُ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً بِسَبَبِ خَفَاءِ نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَكَشْفِهَا عَلَيْهِ.

فَإِنَّ الْعَارِفَ صَاحِبُ ضِيَاءِ الْكَشْفِ أَوْسَعُ بِطَانًا وَقَلْبًا. وَأَعْظَمُ إِطْلَاقًا بِلَا شَكٍّ مِنْ صَاحِبِ الْعِلْمِ. وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ صَاحِبِ الْعِلْمِ إِلَى الْجَاهِلِ. فَكَمَا أَنَّ الْعَالِمَ أَوْسَعُ بِطَانًا مِنَ الْجَاهِلِ. وَلَهُ إِطْلَاقٌ بِحَسَبِ عِلْمِهِ فَالْعَارِفُ - بِمَا مَعَهُ مِنْ رُوحِ الْعِلْمِ. وَضِيَاءِ الْكَشْفِ وَنُورِهِ - هُوَ أَكْثَرُ إِطْلَاقًا. وَأَوْسَعُ بِطَانًا مِنْ صَاحِبِ الْعِلْمِ. فَيَتَقَيَّدُ الْعَالِمُ بِظَوَاهِرِ الْعِلْمِ وَأَحْكَامِهِ. وَالْعَارِفُ لَا يَرَاهَا قُيُودًا.

وَمِنْ هَاهُنَا تَزَنْدَقَ مَنْ تَزَنْدَقَ. وَظَنَّ أَنَّهُ إِذَا لَاحَتْ لَهُ حَقَائِقُهَا، وَبَوَاطِنُهَا: خَلَعَ قُيُودَ ظَوَاهِرِهَا وَرُسُومِهَا، اشْتِغَالًا بِالْمَقْصُودِ عَنِ الْوَسِيلَةِ. وَبِالْحَقِيقَةِ عَنِ الرَّسْمِ. فَهَؤُلَاءُ هُمُ الْمَقْطُوعُونَ عَنِ اللَّهِ، الْقُطَّاعُ لِطَرِيقِ اللَّهِ. وَهُمْ مَعَاطِبُ الطَّرِيقِ وَآفَاتُهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>