للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْإِخْلَاصِ]

[الدَّرَجَةُ الْأُولَى إِخْرَاجُ رُؤْيَةِ الْعَمَلِ عَنِ الْعَمَلِ وَالْخَلَاصُ مِنْ طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى الْعَمَلِ]

فَصْلٌ

قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":

الْإِخْلَاصُ: تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ مِنْ كُلِّ شَوْبٍ.

أَيْ لَا يُمَازِجُ عَمَلَهُ مَا يَشُوبُهُ مِنْ شَوَائِبَ إِرَادَاتُ النَّفْسِ إِمَّا طَلَبُ التَّزَيُّنِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِمَّا طَلَبُ مَدْحِهِمْ، وَالْهَرَبُ مِنْ ذَمِّهِمْ، أَوْ طَلَبُ تَعْظِيمِهِمْ، أَوْ طَلَبُ أَمْوَالِهِمْ أَوْ خِدْمَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَقَضَائِهِمْ حَوَائِجَهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَالشَّوَائِبِ، الَّتِي عَقْدُ مُتَفَرِّقَاتِهَا هُوَ إِرَادَةُ مَا سِوَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ، كَائِنًا مَا كَانَ.

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: إِخْرَاجُ رُؤْيَةِ الْعَمَلِ عَنِ الْعَمَلِ، وَالْخَلَاصُ مِنْ طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى الْعَمَلِ، وَالنُّزُولُ عَنِ الرِّضَا بِالْعَمَلِ.

يَعْرِضُ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ ثَلَاثُ آفَاتٍ: رُؤْيَتُهُ وَمُلَاحَظَتُهُ، وَطَلَبُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، وَرِضَاهُ بِهِ وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ.

فَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَتَخَلَّصُ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ. فَالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِنْ رُؤْيَةِ عَمَلِهِ مُشَاهَدَتُهُ لِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ بِاللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ عَمَلَهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ لَا مَشِيئَتُهُ هُوَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: ٢٩] .

فَهُنَا يَنْفَعُهُ شُهُودُ الْجَبْرِ، وَأَنَّهُ آلَةٌ مَحْضَةٌ، وَأَنَّ فِعْلَهُ كَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَأَنَّ الْمُحَرِّكَ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْفَاعِلُ فِيهِ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ مَيِّتٌ - وَالْمَيِّتُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا - وَأَنَّهُ لَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ الصَّالِحِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ. فَإِنَّ النَّفْسَ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ، طَبْعُهَا الْكَسَلُ، وَإِيثَارُ الشَّهَوَاتِ وَالْبَطَالَةِ. وَهِيَ مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ، وَمَأْوَى كُلِّ سُوءٍ. وَمَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ خَيْرٌ، وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ.

فَالْخَيْرُ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ وَبِهِ. لَا مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: ٢١] ، وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: ٤٣] ، وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِرَسُولِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>