للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُقَلِّبُهُ كَيْفَ أَرَادَ، لَا يَكُونُ لَهُ حَرَكَةٌ وَلَا تَدْبِيرٌ.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: التَّوَكُّلُ إِسْقَاطُ التَّدْبِيرِ. يَعْنِي الِاسْتِسْلَامَ لِتَدْبِيرِ الرَّبِّ لَكَ. وَهَذَا فِي غَيْرِ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. بَلْ فِيمَا يَفْعَلُهُ بِكَ. لَا فِيمَا أَمَرَكَ بِفِعْلِهِ.

فَالِاسْتِسْلَامُ كَتَسْلِيمِ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ نَفْسَهُ لِسَيِّدِهِ، وَانْقِيَادِهِ لَهُ، وَتَرْكِ مُنَازَعَاتِ نَفْسِهِ وَإِرَادَتِهَا مَعَ سَيِّدِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ التَّفْوِيضُ]

فَصْلٌ

الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ: التَّفْوِيضُ.

وَهُوَ رُوحُ التَّوَكُّلِ وَلُبُّهُ وَحَقِيقَتُهُ. وَهُوَ إِلْقَاءُ أُمُورِهِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ، وَإِنْزَالُهَا بِهِ طَلَبًا وَاخْتِيَارًا، لَا كَرْهًا وَاضْطِرَارًا. بَلْ كَتَفْوِيضِ الِابْنِ الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ الْمَغْلُوبِ عَلَى أَمْرِهِ: كُلَّ أُمُورِهِ إِلَى أَبِيهِ، الْعَالِمِ بِشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتِهِ، وَتَمَامِ كِفَايَتِهِ، وَحُسْنِ وِلَايَتِهِ لَهُ، وَتَدْبِيرِهِ لَهُ. فَهُوَ يَرَى أَنَّ تَدْبِيرَ أَبِيهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ تَدْبِيرِهِ لِنَفْسِهِ، وَقِيَامَهُ بِمَصَالِحِهِ وَتَوَلِّيَهُ لَهَا خَيْرٌ مِنْ قِيَامِهِ هُوَ بِمَصَالِحَ نَفْسِهِ وَتَوَلِّيهِ لَهَا. فَلَا يَجِدُ لَهُ أَصْلَحَ وَلَا أَرْفَقَ مِنْ تَفْوِيضِهِ أُمُورَهُ كُلَّهَا إِلَى أَبِيهِ، وَرَاحَتِهِ مِنْ حَمْلِ كُلَفِهَا وَثِقَلِ حِمْلِهَا، مَعَ عَجْزِهِ عَنْهَا، وَجَهْلِهِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ فِيهَا، وَعِلْمِهِ بِكَمَالِ عَلَمِ مَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ، وَقُدْرَتِهِ وَشَفَقَتِهِ.

[فَصْلٌ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ]

فَصْلٌ

فَإِذَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ. انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الرِّضَا.

وَهِيَ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ. وَمَنْ فَسَّرَ التَّوَكُّلَ بِهَا فَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِأَجَلِّ ثَمَرَاتِهِ، وَأَعْظَمِ فَوَائِدِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَوَكَّلَ حَقَّ التَّوَكُّلِ رَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَكِيلُهُ.

وَكَانَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: الْمَقْدُورُ يَكْتَنِفُهُ أَمْرَانِ: التَّوَكُّلُ قَبْلَهُ، وَالرِّضَا بَعْدَهُ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَرَضِيَ بِالْمَقْضِيِّ لَهُ بَعْدَ الْفِعْلِ فَقَدْ قَامَ بِالْعُبُودِيَّةِ. أَوْ مَعْنَى هَذَا.

قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ» . فَهَذَا تَوَكُّلٌ وَتَفْوِيضٌ. ثُمَّ قَالَ: «فَإِنَّكَ تَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَتَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» . فَهَذَا تَبَرُّؤٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>