فَالْمُرَادُ بِهِ: حَدِيثٌ يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ ضَنَائِنَ مِنْ خَلْقِهِ. يُحْيِيهِمْ فِي عَافِيَةٍ. وَيُمِيتُهُمْ فِي عَافِيَةٍ» .
وَالضَّنَائِنُ: الْخَصَائِصُ. يُقَالُ: هُوَ ضِنَّتِي مِنْ بَيْنِ النَّاسِ - بِكَسْرِ الضَّادِ - أَيِ الَّذِي أَخْتَصُّ بِهِ وَأَضِنُّ بِجُودَتِهِ، أَيْ أَبْخَلُ بِهَا أَنْ أُضَيِّعَهَا.
وَقَدْ مَثَّلَ لِلْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ بِقَوْمٍ بَعَثَ إِلَيْهِمْ سُلْطَانُهُمْ يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَى حَضْرَتِهِ مِنْ بِلَادٍ نَائِيَةٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَمْوَالِ، وَالْمَرَاكِبِ وَأَنْوَاعِ الزَّادِ. وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَجَشَّمُوا إِلَيْهِ قَطْعَ السُّبُلِ وَالْمَفَاوِزِ. وَأَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْمَسِيرِ حَتَّى يَلْحَقُوا بِهِ. وَبَعَثَ خَيْلًا لَهُ وَمَمَالِيكَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ. فَقَالَ: احْمِلُوهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخَيْلِ الَّتِي تَسْبِقُ الرِّكَابَ. وَاخْدُمُوهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ. وَلَا تَدَعُوهُمْ يُعَانُونَ مُؤْنَةَ الشَّدِّ وَالرَّبْطِ، بَلْ إِذَا نَزَلُوا فَأَرِيحُوهُمْ. ثُمَّ احْمِلُوهُمْ حَتَّى تُقَدِّمُوهُمْ عَلَيَّ.
فَلَمْ يَجِدْ هَؤُلَاءِ مِنْ مُجَاهَدَةِ السَّيْرِ، وَمُكَابَدَتِهِ، وَوَعْثَاءِ السَّفَرِ مَا وَجَدَهُ غَيْرُهُمْ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْمُرِيدُ يَنْتَقِلُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْإِرَادَةِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُرَادًا فَكَانَ مُحِبًّا. فَصَارَ مَحْبُوبًا. فَكُلُّ مُرِيدٍ صَادِقٍ نِهَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى هَذَا.
وَصَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " كَأَنَّ عِنْدَهُ الْمُرَادَ هُوَ الْمَجْذُوبُ، وَالْمُرِيدَ هُوَ السَّالِكُ عَلَى طَرِيقِ الْجَادَّةِ.
[دَرَجَاتُ الْمُرَادِ]
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ يَعْصِمَ الْعَبْدَ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَلِلْمُرَادِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَعْصِمَ الْعَبْدَ. وَهُوَ مُسْتَشْرِفٌ لِلْجَفَاءِ، اضْطِرَارًا بِتَنْغِيصِ الشَّهَوَاتِ، وَتَعْوِيقِ الْمَلَاذِ، وَسَدِّ مَسَالِكِ الْمَعَاطِبِ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا.
يَعْنِي: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ لِلْجَفَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ - بِمُوَافَقَةِ شَهَوَاتِهِ - عَصَمَهُ سَيِّدُهُ اضْطِرَارًا، بِأَنْ يُنَغِّصَ عَلَيْهِ الشَّهَوَاتِ. فَلَا تَصْفُو لَهُ أَلْبَتَّةَ. بَلْ لَا يَنَالُ مَا يَنَالُ مِنْهَا إِلَّا مَشُوبًا بِأَنْوَاعِ التَّنْغِيصِ، الَّذِي رُبَّمَا أَرْبَى عَلَى لَذَّتِهَا وَاسْتَهْلَكَهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ اللَّذَّةُ فِي جَنْبِ التَّنْغِيصِ كَالْخِلْسَةِ وَالْغَفْوَةِ، وَكَذَلِكَ يَعُوقُ الْمَلَاذَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، حَتَّى لَا يَرْكَنَ إِلَيْهَا، وَلَا يَطْمَئِنَّ إِلَيْهَا وَيُسَاكِنَهَا. فَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسْبَابِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute