بِالْوُقُوفِ عِنْدَهَا طَلَبًا وَقَصْدًا.
[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ رَجَاءُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ]
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: رَجَاءُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ. وَهُوَ رَجَاءُ لِقَاءِ الْخَالِقِ الْبَاعِثِ عَلَى الِاشْتِيَاقِ، الْمُبَغِّضِ الْمُنَغِّصِ لِلْعَيْشِ، الْمُزَهِّدِ فِي الْخَلْقِ.
هَذَا الرَّجَاءُ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الرَّجَاءِ وَأَعْلَاهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: ١١٠] ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: ٥] .
وَهَذَا الرَّجَاءُ هُوَ مَحْضُ الْإِيمَانِ وَزُبْدَتُهُ، وَإِلَيْهِ شَخَصَتْ أَبْصَارُ الْمُشْتَاقِينَ. وَلِذَلِكَ سَلَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْيَانِ أَجَلِ لِقَائِهِ. وَضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا يُسَكِّنُ نُفُوسَهُمْ وَيُطَمْئِنُهَا.
وَالِاشْتِيَاقُ هُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ مَحْبُوبِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُحِبُّونَ: هَلْ يَبْقَى عِنْدَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ أَمْ يَزُولُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَزُولُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْغَيْبَةِ. وَهُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ. فَإِذَا انْتَهَى السَّفَرُ، وَاجْتَمَعَ بِمَحْبُوبِهِ، وَضَعَ عَصَا الِاشْتِيَاقِ عَنْ عَاتِقِهِ. وَصَارَ الِاشْتِيَاقُ أُنْسًا بِهِ وَلَذَّةً بِقُرْبِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَزِيدُ وَلَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ.
قَالُوا: لِأَنَّ الْحُبَّ يَقْوَى بِمُشَاهَدَةِ جَمَالِ الْمَحْبُوبِ أَضْعَافَ مَا كَانَ حَالَ غَيْبَتِهِ. وَإِنَّمَا يُوَارِي سُلْطَانُهُ فَنَاءَهُ وَدَهْشَتَهُ بِمُعَايَنَةِ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى إِذَا تَوَارَى عَنْهُ ظَهَرَ سُلْطَانُ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قِيلَ:
وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا ... إِذَا دَنَتِ الْخِيَامُ مِنَ الْخِيَامِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَقْصَاةً وَتَوَابِعَهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ. وَفِي كِتَابِ " سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ ". وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى مَنْزِلَتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ " الْمُنَغِّصُ لِلْعَيْشِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ عَيْشَ الْمُشْتَاقِ مُنَغَّصٌ حَتَّى يَلْقَى مَحْبُوبَهُ. فَهُنَاكَ تَقَرُّ عَيْنُهُ. وَيَزُولُ عَنْ عَيْشِهِ تَنْغِيصُهُ. وَكَذَلِكَ يَزْهَدُ فِي الْخَلْقِ غَايَةَ التَّزْهِيدِ؛ لِأَنَّ