للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْأَثَرَةُ فَهِيَ اسْتِئْثَارُ صَاحِبِ الشَّيْءِ بِهِ عَلَيْكَ، وَحَوْزُهُ لِنَفْسِهِ دُونَكَ. فَهَذِهِ لَا يُحْمَدُ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْثِرُ عَلَيْهِ. إِلَّا إِذَا كَانَتْ طَوْعًا. مِثْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مُنَازَعَتِهِ وَمُجَاذَبَتِهِ، فَلَا يَفْعَلُ. وَيَدَعُهُ وَأَثَرَتَهُ طَوْعًا. فَهَذَا حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ أَثَرَةَ كَرْهٍ.

وَيَعْنِي بِالصِّحَّةِ: الْوُجُودَ، أَيْ تُوجَدُ كَرْهًا. وَلَكِنْ إِنَّمَا تَحْسُنُ إِذَا كَانَتْ طَوْعًا مِنَ الْمُسْتَأْثِرِ عَلَيْهِ.

فَحَقِيقَةُ الْإِيثَارِ بَذْلُ صَاحِبِهِ وَإِعْطَاؤُهُ. وَالْأَثَرَةُ اسْتِبْدَالُهُ هُوَ بِالْمُؤْثَرِ بِهِ. فَيَتْرُكُهُ وَمَا اسْتُبْدِلَ بِهِ: إِمَّا طَوْعًا، وَإِمَّا كَرْهًا. فَكَأَنَّكَ آثَرْتَهُ بِاسْتِئْثَارِهِ حَيْثُ خَلَّيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلَمْ تُنَازِعْهُ.

«قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي عُسْرِنَا، وَيُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا، وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ» . فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ: لَهُمْ مَعَهُ وَمَعَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ، وَالْأَثَرَةُ: عَدَمُ مُنَازَعَةِ الْأَمْرِ مَعَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَيْهِمْ.

[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْإِيثَارِ]

[الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ تُؤْثِرَ الْخَلْقَ عَلَى نَفْسِكَ]

فَصْلٌ

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تُؤْثِرَ الْخَلْقَ عَلَى نَفْسِكَ فِيمَا لَا يَخْرِمُ عَلَيْكَ دِينًا. وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا، وَلَا يُفْسِدُ عَلَيْكَ وَقْتًا.

يَعْنِي: أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى نَفْسِكَ فِي مَصَالِحِهِمْ. مِثْلَ أَنْ تُطْعِمَهُمْ وَتَجُوعَ. وَتَكْسُوَهُمْ وَتَعْرَى، وَتَسْقِيَهُمْ وَتَظْمَأَ، بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى ارْتِكَابِ إِتْلَافٍ لَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ. وَمِثْلَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِمَالِكَ وَتَقْعُدَ كَلًّا مُضْطَرًّا، مُسْتَشْرِفًا لِلنَّاسِ أَوْ سَائِلًا. وَكَذَلِكَ إِيثَارُهُمْ بِكُلِّ مَا يُحَرِّمُهُ عَلَى الْمُؤْثِرِ دِينُهُ. فَإِنَّهُ سَفَهٌ وَعَجْزٌ. يُذَمُّ الْمُؤْثِرُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا أَيْ لَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقَ الطَّلَبِ وَالْمَسِيرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِثْلَ أَنْ تُؤْثِرَ جَلِيسَكَ عَلَى ذِكْرِكَ، وَتَوَجُّهِكَ وَجَمْعِيَّتِكَ عَلَى اللَّهِ. فَتَكُونَ قَدْ آثَرْتَهُ عَلَى اللَّهِ. وَآثَرْتَ بِنَصِيبِكَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْإِيثَارَ. فَيَكُونَ مَثَلُكَ كَمَثَلِ مُسَافِرٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>