الْقَلْبُ مِنِ انْزِعَاجِ الْهَيْبَةِ بَعْضَ السُّكُونِ. وَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. فَلَيْسَ حُكْمًا دَائِمًا مُسْتَمِرًّا. وَهَذَا يَكُونُ لِأَهْلِ الطُّمَأْنِينَةِ دَائِمًا. وَيَصْحَبُهُ الْأَمْنُ وَالرَّاحَةُ بِوُجُودِ الْأُنْسِ. فَإِنَّ الِاسْتِرَاحَةَ فِي السَّكِينَةِ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْهَيْبَةِ فَقَطْ. وَالِاسْتِرَاحَةُ فِي مَنْزِلَةِ الطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ مَعَ زِيَادَةِ أُنْسٍ. وَذَلِكَ فَوْقَ مُجَرَّدِ الْأَمْنِ، وَقَدْرٌ زَائِدٌ عَلَيْهِ.
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ الثَّانِي: أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ مَلَكَةٌ، وَمَقَامٌ لَا يُفَارَقُ. وَالسَّكِينَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى سَكِينَةٍ هِيَ مَقَامٌ وَنَعْتٌ لَا يَزُولُ وَإِلَى سَكِينَةٍ تَكُونُ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَمْرَانِ، سِوَى مَا ذَكَرَ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَفَرَهُ وَفَوْزَهُ بِمَطْلُوبِهِ الَّذِي حَصَّلَ لَهُ السَّكِينَةَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَاجَهَهُ عَدُوٌّ يُرِيدُ هَلَاكَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَدُّوهُ، فَسَكَنَ رَوْعُهُ. وَالطُّمَأْنِينَةُ بِمَنْزِلَةِ حِصْنٍ رَآهُ مَفْتُوحًا فَدَخَلَهُ. وَأَمِنَ فِيهِ. وَتَقَوَّى بِصَاحِبِهِ وَعِدَّتِهِ. فَلِلْقَلْبِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ.
أَحَدُهَا: الْخَوْفُ وَالِاضْطِرَابُ وَالْقَلَقُ مِنَ الْوَارِدِ الَّذِي يُزْعِجُهُ وَيُقْلِقُهُ.
الثَّانِي: زَوَالُ ذَلِكَ الْوَارِدِ الَّذِي يُزْعِجُهُ وَيُقْلِقُهُ عَنْهُ وَعَدَمُهُ.
الثَّالِثُ: ظَفَرُهُ وَفَوْزُهُ بِمَطْلُوبِهِ الَّذِي كَانَ ذَلِكَ الْوَارِدُ حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ.
وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ وَيُقَارِنُهُ. فَالطُّمَأْنِينَةُ تَسْتَلْزِمُ السَّكِينَةَ وَلَا تُفَارِقُهَا. وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ. لَكِنَّ اسْتِلْزَامَ الطُّمَأْنِينَةِ لِلسَّكِينَةِ أَقْوَى مِنِ اسْتِلْزَامِ السَّكِينَةِ لِلطُّمَأْنِينَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَمُّ، فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ بِهِ، وَالْيَقِينِ وَالظَّفَرِ بِالْمَعْلُومِ. وَلِهَذَا اطْمَأَنَّتِ الْقُلُوبُ بِالْقُرْآنِ لَمَّا حَصَلَ لَهَا الْإِيمَانُ بِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ وَالْهِدَايَةُ بِهِ فِي ظُلَمِ الْآرَاءِ وَالْمَذَاهِبِ. وَاكْتَفَتْ بِهِ مِنْهُ، وَحَكَّمَتْهُ عَلَيْهَا وَعَزَلَتْهَا. وَجَعَلَتْ لَهُ الْوِلَايَةَ بِأَسْرِهَا كَمَا جَعَلَهَا اللَّهُ. فَبِهِ خَاصَمَتْ، وَإِلَيْهِ حَاكَمَتْ. وَبِهِ صَالَتْ. وَبِهِ دَفَعَتِ الشُّبَهَ.
وَأَمَّا السَّكِينَةُ: فَإِنَّهَا ثَبَاتُ الْقَلْبِ عِنْدَ هُجُومِ الْمَخَاوِفِ عَلَيْهِ، وَسُكُونُهُ وَزَوَالُ قَلَقِهِ وَاضْطِرَابِهِ، كَمَا يَحْصُلُ لِحِزْبِ اللَّهِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ وَصَوْلَتِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الطُّمَأْنِينَةِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ]
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَهِيَ طُمَأْنِينَةُ الْخَائِفِ إِلَى الرَّجَاءِ، وَالضَّجِرِ إِلَى الْحُكْمِ، وَالْمُبْتَلَى إِلَى الْمَثُوبَةِ.