التَّفْوِيضُ. فَالْمُتَوَكِّلُ يَسْكُنُ إِلَى وَعْدِهِ، وَصَاحِبُ التَّسْلِيمِ يَكْتَفِي بِعِلْمِهِ، وَصَاحِبُ التَّفْوِيضِ يَرْضَى بِحُكْمِهِ. فَالتَّوَكُّلُ بِدَايَةٌ، وَالتَّسْلِيمُ وَاسِطَةٌ، وَالتَّفْوِيضُ نِهَايَةٌ. فَالتَّوَكُّلُ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ الْأَوْلِيَاءِ. وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ الْمُوَحِّدِينَ.
التَّوَكُّلُ صِفَةُ الْعَوَامِّ. وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ الْخَوَاصِّ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ.
التَّوَكُّلُ صِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الدَّقَّاقِ. وَمَعْنَى هَذَا التَّوَكُّلِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْوَكِيلِ، وَقَدْ يَعْتَمِدُ الرَّجُلُ عَلَى وَكِيلِهِ مَعَ نَوْعِ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ، وَإِرَادَةٍ وَشَائِبَةِ مُنَازَعَةٍ. فَإِذَا سَلَّمَ إِلَيْهِ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ. وَرَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَكِيلُهُ. وَحَالُ الْمُفَوَّضِ فَوْقَ هَذَا. فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُرِيدٌ مِمَّنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ، مُلْتَمِسٌ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُ. فَهُوَ رِضًا وَاخْتِيَارٌ، وَتَسْلِيمٌ وَاعْتِمَادٌ، فَالتَّوَكُّلُ يَنْدَرِجُ فِي التَّسْلِيمِ، وَهُوَ وَالتَّسْلِيمُ يَنْدَرِجَانِ فِي التَّفْوِيضِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ مُرَكَّبَةٌ فِي أُمُورٍ]
[فَصْلٌ الْأُولَى مَعْرِفَةُ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ]
فَصْلٌ
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ التَّوَكُّلَ حَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ أُمُورٍ، لَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِهَا. وَكُلٌّ أَشَارَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.
فَأَوَّلُ ذَلِكَ: مَعْرِفَةٌ بِالرَّبِّ وَصِفَاتِهِ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَكِفَايَتِهِ، وَقَيُّومِيَّتِهِ، وَانْتِهَاءِ الْأُمُورِ إِلَى عِلْمِهِ، وَصُدُورِهَا عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ أَوَّلُ دَرَجَةٍ يَضَعُ بِهَا الْعَبْدُ قَدَمَهُ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ.
قَالَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ فَيْلَسُوفٍ. وَلَا مِنَ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا مِنَ الْجَهْمِيَّةِ النُّفَاةِ لِصِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ التَّوَكُّلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ.
فَأَيُّ تَوَكُّلٍ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعُمُّ جُزَيْئَاتِ الْعَالِمِ سُفْلِيِّهِ وَعُلْوِيِّهِ؟ وَلَا هُوَ فَاعِلٌ بِاخْتِيَارِهِ؟ وَلَا لَهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ. وَلَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ؟ فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَعْلَمُ وَأَعْرَفُ كَانَ تَوَكُّلُهُ أَصَحَّ وَأَقْوَى. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِثْبَاتٌ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ]
فَصْلٌ