للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَحْمِلُهُ عَلَى إِجَابَةِ دَاعِي الْعِلْمِ، وَوَارِدُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى إِجَابَةِ دَاعِي الْحَالِ. فَيَصِيرُ كَالْغَرِيمِ بَيْنَ مُطَالِبَيْنِ. كُلٌّ مِنْهُمَا يُطَالِبُهُ بِحَقِّهِ. وَلَيْسَ بِيَدِهِ إِلَّا مَا يَقْضِي أَحَدَهُمَا.

وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا مِنَ الضِّيقِ. وَإِلَّا فَمَعَ السَّعَةِ: يُوَفِّي كُلًّا مِنْهُمَا حَقَّهُ.

قَوْلُهُ " يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا " أَيْ ذَلِكَ الْبَلَاءُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا، وَهُوَ الطَّوْرُ الَّذِي يَكُونُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِيهِ: هُوَ الْعِلْمَ.

قَوْلُهُ " وَيَكْسُوهُ عِبْرَةً طَوْرًا " الظَّاهِرُ: أَنَّهُ عِبْرَةٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ، أَيِ اعْتِبَارًا بِأَفْعَالِهِ، وَاسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ بِهَا. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَلَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَفْعَالِهِ. فَالْعِلْمُ يَكْسُو صَاحِبَهُ اعْتِبَارًا وَاسْتِدْلَالًا عَلَى الرَّبِّ بِأَفْعَالِهِ.

وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَةً، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْعِلْمَ يَكْسُوهُ غَيْرَةً مِنْ حِجَابِهِ عَنْ مَقَامِ صَاحِبِ الْحَالِ. فَيَغَارُ مِنِ احْتِجَاجِهِ عَنِ الْحَالِ بِالْعِلْمِ، وَعَنِ الْعِيَانِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَعَنِ الشُّهُودِ - الَّذِي هُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ - بِالْإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ.

قَوْلُهُ " وَيُرِيهِ غَيْرَةَ تَفَرُّقٍ طَوْرًا " هَذَا بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ لَيْسَ إِلَّا، أَيْ وَيُرِيهِ الْعِلْمُ غَيْرَةَ تَفْرِقَةٍ فِي أَوْدِيَتِهِ. فَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَحْكَامِ الْحَالِ وَأَحْكَامِ الْعِلْمِ. وَهُوَ حَالُ صَحْوٍ وَتَمْيِيزٍ.

وَكَأَنَّ الشَّيْخَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ تَغَارُ تَفْرِقَتُهُ مِنْ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ. فَنَفْسُهُ تَفِرُّ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ إِلَى تَفَرُّقِ الْعِلْمِ. فَإِنَّهُ لَاأَشَقَّ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ جَمْعِيَّتِهَا عَلَى اللَّهِ. فَهِيَ تَهْرُبُ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْحَالِ تَارَةً، وَإِلَى الْعَمَلِ تَارَةً، وَإِلَى الْعِلْمِ تَارَةً، هَذِهِ نُفُوسُ السَّالِكِينَ الصَّادِقِينَ.

وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ: فَنُفُوسُهُمْ تَفِرُّ مِنَ اللَّهِ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَالرَّاحَاتِ. فَأَشَقُّ مَا عَلَى النُّفُوسِ: جَمْعِيَّتُهَا عَلَى اللَّهِ. وَهِيَ تُنَاشِدُ صَاحِبَهَا: أَنْ لَا يُوَصِّلَهَا إِلَيْهِ، وَأَنْ يَشْغَلَهَا بِمَا دُونَهُ. فَإِنَّ حَبْسَ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ شَدِيدٌ. وَأَشَدُّ مِنْهُ: حَبْسُهَا عَلَى أَوَامِرِهِ. وَحَبْسُهَا عَنْ نَوَاهِيهِ. فَهِيَ دَائِمًا تُرْضِيكَ بِالْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَبِالْعَمَلِ عَنِ الْحَالِ، وَبِالْحَالِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ شَدَّ مِئْزَرَ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ. وَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ قَاطِعٌ عَنْهُ.

وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ - كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ -: دَرَجَةُ الْحَالِ. وَدَرَجَةُ الْعِلْمِ، وَدَرَجَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَالِ وَالْعِلْمِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الدَّرَجَاتِ: هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>