مِنْ مَقَامِ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ. وَاسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّهَا. فَإِنَّ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ: أَنْفَعُ وَأَجْدَى عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُجَاهَدَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّتِي لَمْ يَفْرِضْهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا جَمَعَ هَمَّهُ وَقَلْبَهُ كُلَّهُ عَلَى اللَّهِ، وَزَالَ كُلُّ مُفَرِّقٍ وَمُشَتِّتٍ: كَانَتْ هَذِهِ هِيَ سَاعَاتُ عُمْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. فَتَعَوَّضَ بِهَا عَمَّا كَانَ يُقَاسِيهِ مِنْ كَدِّ الْمُجَاهَدَاتِ وَتَعَبِهَا.
وَهَذَا مَوْضِعٌ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ.
إِحْدَاهُمَا: غَلَتْ فِيهِ، حَتَّى قَدَّمَتْهُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ. وَرَأَتْ نُزُولَهَا عَنْهُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ انْحِطَاطًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى. حَتَّى قِيلَ لِبَعْضِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ذَاقَ ذَلِكَ: قُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ:
يُطَالَبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا ... فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ
وَقَالَ آخَرُ: لَا تُسَيِّبْ وَارِدَكَ لِوِرْدِكَ.
وَهَؤُلَاءِ بَيْنَ كَافِرٍ وَنَاقِصٍ.
فَمَنْ لَمْ يَرَ الْقِيَامَ بِالْفَرَائِضِ - إِذَا حَصَلَتْ لَهُ الْجَمْعِيَّةُ - فَهُوَ كَافِرٌ، مُنْسَلِخٌ مِنَ الدِّينِ. وَمِنْ عَطَّلَ لَهَا مَصْلَحَةً رَاجِحَةً - كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالنَّفْعِ الْعَظِيمِ الْمُتَعَدِّي - فَهُوَ نَاقِصٌ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: لَا تَعْبَأُ بِالْجَمْعِيَّةِ، وَلَا تَعْمَلُ عَلَيْهَا. وَلَعَلَّهَا لَا تَدْرِي مَا مُسَمَّاهَا وَلَا حَقِيقَتُهَا.
وَطَرِيقَةُ الْأَقْوِيَاءِ، أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ: الْقِيَامُ بِالْجَمْعِيَّةِ فِي التَّفْرِقَةِ مَا أَمْكَنَ. فَيَقُومُ أَحَدُهُمْ بِالْعِبَادَاتِ، وَنَفْعِ الْخَلْقِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، مَعَ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ. فَإِنْ ضَعُفَ عَنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، وَضَاقَ عَنْ ذَلِكَ: قَامَ بِالْفَرَائِضِ. وَنَزَلَ عَنِ الْجَمْعِيَّةِ. وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا إِلَّا بِتَعْطِيلِ الْفَرْضِ. فَإِنَّ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ مِنْهُ أَدَاءَ فَرَائِضِهِ. وَنَفْسَهُ تُرِيدُ الْجَمْعِيَّةَ، لِمَا فِيهَا مِنَ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ أَلَمِ التَّفْرِقَةِ وَشَعْثِهَا. فَالْفَرَائِضُ حَقُّ رَبِّهِ. وَالْجَمْعِيَّةُ حَظُّهُ هُوَ.
فَالْعُبُودِيَّةُ الصَّحِيحَةُ: تُوجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. فَإِذَا جَاءَ إِلَى النَّوَافِلِ، وَتَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ الْجَمْعِيَّةَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ النَّوَافِلَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا فِي وَقْتٍ وَهَذَا فِي وَقْتٍ.
وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ تِلْكَ النَّوَافِلَ إِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهَا أَرْجَحَ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ،