للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَا تُعَوِّضُهُ الْجَمْعِيَّةُ عَنْهَا: اشْتَغَلَ بِهَا، وَلَوْ فَاتَتِ الْجَمْعِيَّةُ، كَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَقِيَامِ وَسَطِ اللَّيْلِ، وَالذِّكْرِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ. وَنَفْلِ الْجِهَادِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُضْطَرِّ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا كُلُّهُ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْجَمْعِيَّةِ.

وَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ دُونَ الْجَمْعِيَّةِ - كَصَلَاةِ الضُّحَى، وَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ، وَالْغُسْلِ لِحُضُورِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَزِيَارَةِ الْقُدْسِ، وَضِيَافَةِ الْإِخْوَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ.

فَإِنْ قَوِيَتْ جَمْعِيَّتُهُ فَظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فِيهِ: فَهِيَ أَوْلَى لَهُ، وَأَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ ضَعُفَتِ الْجَمْعِيَّةُ، وَقَوِيَ إِخْلَاصُهُ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ: فَهِيَ أَنْفَعُ لَهُ، وَأَفْضَلُ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ.

وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: إِيثَارُ أَحَبِّ الْأَمْرَيْنِ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى.

وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِنَفْعِ الْعَمَلِ وَثَمَرَتِهِ، مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَتَرَتُّبِ الْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ عَلَيْهِ، وَكَثْرَةِ مُوَاظَبَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ، وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ بِهِ، وَكَثْرَةِ الْوَصِيَّةِ بِهِ، وَإِخْبَارِهِ: أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فَاعِلَهُ. وَيُبَاهِي بِهِ الْمَلَائِكَةَ. وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ وَحَرْفُهَا: أَنَّ الصَّادِقَ فِي طَلَبِهِ يُؤْثِرُ مَرْضَاةَ رَبِّهِ عَلَى حَظِّهِ. فَإِنْ كَانَ رِضَا اللَّهِ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَحَظُّهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ: خَلَّى الْجَمْعِيَّةَ تَذْهَبُ. وَقَامَ بِمَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ.

وَمَتَّى عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ: أَنَّ تَرَدُّدَهُ وَتَوَقُّفَهُ - لِيَعْلَمَ: أَيَّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَأَرْضَى لَهُ - أَنْشَأَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ التَّوَقُّفِ وَالتَّرَدُّدِ حَالَةً شَرِيفَةً فَاضِلَةً، حَتَّى لَوْ قَدَّمَ الْمَفْضُولَ - لِظَنِّهِ أَنَّهُ الْأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ -: رَدَّتْ تِلْكَ النِّيَّةُ وَالْإِرَادَةُ عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ وَفَاتَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ الْآخَرِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَفِي كَلَامِهِ مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْمُجَاهَدَاتِ مُسَافِرٌ بِعَزْمِهِ وَهِمَّتِهِ إِلَى اللَّهِ. فَإِذَا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ، وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ - الَّتِي شُهُودُ عَيْنِهَا: هُوَ انْكِشَافُ حَقِيقَتِهَا لِلْقَلْبِ - كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُسَافِرٍ جَادٍّ فِي سَيْرِهِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَنْزِلِ. وَقَرَّتْ عَيْنُهُ بِالْوُصُولِ. وَسَكَنَتْ نَفْسُهُ، كَمَا قِيلَ:

فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ

وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ: مَوْرِدُ الصِّدِّيقِ الْمُوَحِّدِ. وَالزِّنْدِيقِ الْمُلْحِدِ.

فَالزِّنْدِيقُ يَقُولُ: الِاشْتِغَالُ بِالسَّيْرِ بَعْدَ الْوُصُولِ عَيْبٌ. لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالْوُصُولُ عِنْدَهُ: هُوَ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ. فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَفَنِيَ بِهِ عَنْ كُلِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>