للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا سِوَاهُ: ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ بِالْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ. وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ الْغَايَةُ. فَرَأَى قِيَامَهُ بِهَا أَوْلَى بِهِ. وَأَنْفَعَ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ. فَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ عِنْدَهُ: وَسِيلَةٌ لِغَايَةٍ، وَقَدْ حَصَلَتْ. فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَهَا، كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ. فَإِذَا اشْتَغَلْتَ بِالْغَايَةِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الْوَسِيلَةِ.

وَقَدِ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ - مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الشُّيُوخِ - عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ. وَحَذَّرُوا مِنْهُمْ. وَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ وَأَصْحَابَ الشَّهَوَاتِ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَأَرْجَى عَاقِبَةً.

وَأَمَّا الصِّدِّيقُ الْمُوَحِّدُ: فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هُنَاكَ، صَارَتْ أَعْمَالُهُ الْقَلْبِيَّةُ وَالرُّوحِيَّةُ أَعْظَمَ مِنْ أَعْمَالِهِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يُسْقِطْ مِنْ أَعْمَالِهِ شَيْئًا. وَلَكِنَّهُ اسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّ الْمُجَاهَدَاتِ بِمُلَاحَظَةِ عَيْنِ الْجَمْعِ.

وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مُسَافِرٍ طَلَبَ مَلِكًا عَظِيمًا رَحِيمًا جَوَادًا، فَجَدَّ فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَقْتَطِعَ دُونَهُ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ: بَقِيَ لَهُ سَيْرٌ آخَرُ فِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ. فَالْأَوَّلُ: كَانَ سَيْرًا إِلَيْهِ. وَهَذَا سَيْرٌ فِي مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ وَأَمْثَالِهِ فِي ذَلِكَ.

وَبَعْدُ، فَالْعَبْدُ - وَإِنْ لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا - فَهُوَ سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ وَلَا يَنْقَطِعُ سَيْرُهُ إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ. وَلَا يَصِلُ الْعَبْدُ مَا دَامَ حَيًّا إِلَى اللَّهِ وُصُولًا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ السَّيْرِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ.

بَلْ يَشْتَدُّ سَيْرُهُ إِلَى اللَّهِ كُلَّمَا زَادَتْ مُلَاحَظَتُهُ لِتَوْحِيدِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمَ الْخَلْقِ اجْتِهَادًا، وَقِيَامًا بِالْأَعْمَالِ، وَمُحَافَظَةً عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ. وَهُوَ أَعْظَمُ مَا كَانَ اجْتِهَادًا وَقِيَامًا بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ. فَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِأَعْمَالِ الثَّقَلَيْنِ جَمِيعِهَا لَمْ تُفَارِقْهُ حَقِيقَةُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَكَانَ بَعْدُ فِي طَرِيقِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ.

وَتَقْسِيمُ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ: إِلَى طَالِبٍ، وَسَائِرٍ، وَوَاصِلٍ. أَوْ إِلَى مُرِيدٍ، وَمُرَادٍ: تَقْسِيمٌ فِيهِ مُسَاهَلَةٌ لَا تَقْسِيمٌ حَقِيقِيٌّ، فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالسُّلُوكَ وَالْإِرَادَةَ لَوْ فَارَقَ الْعَبْدَ: لَانْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ.

وَلَكِنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بِاعْتِبَارِ تَنَقُّلِ الْعَبْدِ فِي أَحْوَالِ سَيْرِهِ وَإِلَّا فَإِرَادَةُ الْعَبْدِ الْمُرَادَ، وَطَلَبُهُ وَسَيْرُهُ: أَشَدُّ مِنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، وَطَلَبِهِ وَسَيْرِهِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُرَادٌ أَوَّلًا، حَيْثُ أُقِيمَ فِي مَقَامِ الطَّلَبِ، وَجُذِبَ إِلَى السَّيْرِ. فَكُلِّ مُرِيدٍ مُرَادٌ. وَكُلٌّ وَاصِلٌ وَسَالِكٌ وَطَالِبٌ لَا يُفَارِقُهُ طَلَبُهُ وَلَا سَيْرُهُ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ طُرُقُ السَّيْرِ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الْعَبْدِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>