وَالصَّادِقُونَ الْعَارِفُونَ بَرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ، وَارْتِفَاعِ حُجُبِ الْغَفْلَةِ وَالشَّكِّ وَالْإِعْرَاضِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْقَلْبِ بِمَحْوِ شُهُودِ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ. فَلَا يَشْهَدُ الْقَلْبُ سِوَى مَعْرُوفِهِ.
وَيُنَظِّرُونَ هَذَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. فَإِنَّهَا إِذَا طَلَعَتِ انْطَمَسَ نُورُ الْكَوَاكِبِ. وَلَمْ تُعْدَمِ الْكَوَاكِبُ. وَإِنَّمَا غَطَّى عَلَيْهَا نُورُ الشَّمْسِ. فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا وُجُودٌ. وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ مَوْجُودَةٌ فِي أَمَاكِنِهَا. وَهَكَذَا نُورُ الْمَعْرِفَةِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ، قَوِيَ سُلْطَانُهَا، وَزَالَتِ الْمَوَانِعُ وَالْحُجُبِ عَنِ الْقَلْبِ.
وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ وَالْأَوْصَافَ: بَرَزَتْ وَتَجَلَّتْ لِلْعَبْدِ - كَمَا تَجَلَّى سُبْحَانَهُ لِلطُّورِ، وَكَمَا يَتَجَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ - إِلَّا غَالِطٌ فَاقِدٌ لِلْعِلْمِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنَ التَّجَاوُزِ مِنْ نُورِ الْعِبَادَاتِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ إِلَى نُورِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ.
فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ، وَالرِّيَاضَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَالذِّكْرَ الْمُتَوَاطِئَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ: يُوجِبُ نُورًا عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ. وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ حَتَّى يُشَاهَدَ بِالْعِيَانِ. فَيَظُنُّهُ فِيهِ ضَعِيفُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْعُبُودِيَّةِ. فَيَظُنُّهُ نُورَ الذَّاتِ، وَهَيْهَاتَ! ثُمَّ هَيْهَاتَ! نُورُ الذَّاتِ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَشَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحِجَابَ عَنْهُ لَتَدَكْدَكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ، كَمَا تَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْقَدْرُ الْيَسِيرُ مِنَ التَّجَلِّي.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنَامُ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. حِجَابُهُ النُّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» .
فَالْإِسْلَامُ لَهُ نُورٌ. وَالْإِيمَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُ. وَالْإِحْسَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُمَا. فَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ، وَزَالَتِ الْحُجُبُ الشَّاغِلَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: امْتَلَأَ الْقَلْبُ وَالْجَوَارِحُ بِذَلِكَ النُّورِ. لَا بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ تَعَالَى. فَإِنَّ صِفَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِيهِ. فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute