فِعْلُهُمْ، وَالْإِقَامَةُ فِعْلُهُ، وَالْقِيَامُ فِعْلُهُمْ، وَالْإِنْطَاقُ فِعْلُهُ، وَالنُّطْقُ فِعْلُهُمْ، فَكَيْفَ تُجْعَلُ نِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى مَحَالِّهَا الْقَائِمَةِ بِهَا، وَأَسْبَابِهَا الْمُظْهِرَةِ لَهَا: تَلْبِيسًا؟
وَمَعْلُومٌ: أَنَّ طَيَّ بِسَاطِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ: تَعْطِيلٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالشَّرَائِعِ وَالْحِكَمِ، وَأَمَّا الْوُقُوفُ مَعَ الْأَسْبَابِ، وَاعْتِقَادُ تَأْثِيرِهَا: فَلَا نَعْلَمُ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِأَنْفُسِهَا، حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى نَفْيِ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ - وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ -: إِنَّ أَفْعَالَ الْحَيَوَانِ خَاصَّةً غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ، وَلَا وَاقِعَةٍ بِمَشِيئَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَطْبَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى ذَمِّهِمْ وَتَبْدِيعِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ، وَبَيَّنَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ أَشْبَاهُ الْمَجُوسِ، وَأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ الْعُقُولَ وَالْفِطَرَ وَنُصُوصَ الْوَحْيِ، فَالتَّلْبِيسُ فِي الْحَقِيقَةِ حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ، وَلِمُنْكِرِي الْأَسْبَابِ فِي الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَالْحِكَمِ، وَلُبِّسَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ.
وَالْحَقُّ - الَّذِي بَعَثَ بِهِ اللَّهُ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَفَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، وَأَوْدَعَهُ فِي عُقُولِهِمْ -: بَيْنَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَالْهُدَى بَيْنَ الضَّلَالَتَيْنِ، وَالِاسْتِقَامَةُ بَيْنَ الِانْحِرَافَيْنِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْقُرْآنَ - بَلْ وَسَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ - تَضَمَّنَتْ تَعْلِيقَ الْكَوَائِنِ بِالْأَسْبَابِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَحَايِينِ، وَتَعْلِيقَ الْمَعَارِفِ بِالْوَسَائِطِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ وَالْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ، وَالِانْتِقَامَ بِالْجِنَايَاتِ، وَالْمَثُوبَاتِ بِالطَّاعَاتِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا تَلْبِيسًا عَادَ الْوَحْيُ وَالشَّرْعُ وَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ تَلْبِيسًا.
نَعَمُ، التَّلْبِيسُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْلِيقَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْلَالِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَنَاصِبِ الْحِكَمِ وَالْعِلَلِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ: أَنَّهُ لَبَّسَ الْأَمْرَ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الصَّوَابِ، فَأَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ يَنْتَصِرُ لَهُمْ، وَيَذُبُّ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ أَثْبَتَ الْأَسْبَابَ وَالْحِكَمَ وَالْعِلَلَ، وَعَلَّقَ بِهَا مَا عَلَّقَهُ اللَّهُ بِهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالشَّرْعِ، وَأَنْزَلَهَا بِالْمَحَلِّ الَّذِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِهِ، وَوَضَعَهَا حَيْثُ وَضَعَهَا - فَقَدْ لَبَّسَ عَلَيْهِ، فَنَحْنُ نَدِينُ اللَّهَ بِذَلِكَ، وَإِنْ سُمِّيَ تَلْبِيسًا، كَمَا نَدِينُ بِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَإِنْ سُمِّيَ جَبْرًا، وَنَدِينُ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ، وَإِنْ سُمِّيَ تَجْسِيمًا، وَنَدِينُ بِإِثْبَاتِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وَإِنْ سُمِّيَ تَحَيُّزًا أَوْ جِهَةً، وَنَدِينُ بِإِثْبَاتِ وَجْهِهِ الْأَعْلَى، وَيَدَيْهِ الْمَبْسُوطَتَيْنِ، وَإِنْ سُمِّيَ تَرْكِيبًا، وَنَدِينُ بِحُبِّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ سُمِّيَ نَصْبًا، وَنَدِينُ بِأَنَّهُ مُكَلَّمٌ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً كَلَامًا يَسْمَعُهُ مَنْ خَاطَبَهُ، وَأَنَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا حَقِيقَةً يَوْمَ لِقَائِهِ، وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute